نقلا عن الدستور
هل لاحظت معى تراجع ظاهرة التحرش فى العيد؟ إن كنت كذلك فتعال معى نتأكد أكثر، فقد عهدنا أعيادنا سويًا وشاهدنا فيديوهات الوقاحة وقلة الأدب وانعدام السلوك والأخلاق، وكثيرًا ما كنا نتحدث عن التناقض الرهيب بين شعب يملأ الدنيا كلامًا عن الأخلاق والدين ويتحفز لقتل من يفكر فى تفسير حديث نبوى على غير هواه، وذئاب بشرية تنهش أعراض البنات فى الشوارع وتستحل لنفسها افتراسهن بمبررات دينية أيضًا تؤمن بنظرية «إيه اللى خرجها من بيتها؟!».
عمومًا، إن كنت قد لاحظت ما لاحظتُ فلن تحتاج منى تذكيرًا بجرائم بشعة لم تخيب ظننا مرة، وظلت تتكرر فى الأعياد والمناسبات، وفشلت كل متاريس الداخلية واختراعات السوشيال ميديا واجتهادات الجمعيات الأهلية ومبادرات فيسبوك وتويتر فى وقف هذه الجرائم التى انتهكت كل الأعراف وتحولت إلى وحش يهدد الأمن ويروع العائلات بمجهول ينتظر بناتهم كلما خرجت إحداهن للجامعة أو المدرسة أو للتنزه قليلًا، فهناك ذئب يستقوى بذئاب حوله يتربص بها، وأصبح خروج البنت من بيتها بمثابة خروج روح الآباء والأمهات لحين عودتها سالمة، رعب وقلق وتوجس أفقد المصريين الكثير من تركيزهم فى العمل، واضطرت عائلات إلى حبس بناتها بين جدران البيوت وانكسرت البنت انكسارًا لا يليق بتاريخ وحضارة بلدها الذى علَّم الدنيا معنى الإنسانية والذوق ووضع مدونات للسلوك والأخلاق واحترام الأنثى وتقديسها فى كثير من جداريات المعابد والأديرة.
علينا الآن أن نأخذ نفسًا عميقًا لنرى ونتأمل كيف تراجعت- ولن أقول اختفت- هذه الظاهرة اللاأخلاقية؟ هل نجحت الداخلية بالفعل فى نشر قواتها بشكل مختلف عن السنوات السابقة؟ هل تم تغيير استراتيجية حماية المواطنين والتركيز على النقاط الأكثر تحرشًا؟ هل أتت حملات المركز القومى للمرأة بثمارها، هل وصلت حملات فيسبوك وتويتر إلى الشارع وجاءت بنتائج؟ أم أن شيئًا أُضيف إلى المصريين فى الفترة الأخيرة جعل تلك الظاهرة تتراجع فى عيد الفطر وتكاد تختفى بعده بشهرين مع الأضحى؟، هل حالة الغلاء فى الأسعار وانشغال الناس بتدبير قوت يومهم كان له دور؟ هل يعيش المصريون حالة من الشعور القومى الذى عاشته أجيال قبلنا فى أزمات اقتصادية وهزائم عسكرية، هل كانت ميليشيات الإخوان تغذى ظاهرة التحرش وتموّل بعضها؟ هل تنّزلت التقوى على قلوب وحوش الشوارع الصغيرة؟!
أعرف أنك ستترك كل الأسئلة وتتوقف عند «ميليشيات الإخوان» فهو تعبير سيئ السمعة بالنسبة لكثيرين ممن يجهلون أن عددًا من المواقع الإخبارية الممولة من قطر وتركيا مثلًا تلعب دورًا كبيرًا فى تفشى الظاهرة، وهى تبيح للشباب التحرش حتى بالمحجبات فهن فى مجتمع انقلابى كافر وانتهاك غير المحجبات أعداء الدين، وهذه للعلم فقط إحدى أوجه الميليشيات ووسائلها.
أظن أن فتح باب التساؤلات والبحث يساعدنا فى الكشف بصورة أوضح، فإن كنا قد انشغلنا سبع سنوات متواصلة بما حدث فى ميدان التحرير وما يحدث فى المحافظات والقرى والنجوع من تحرشات بالبنات وانتهاك لأعراضهن، فعلينا أن نبحث عن سر القوة التى ستحمينا تمامًا من هذا الوحش الجاهل العنيف معدوم الأخلاق، علينا أن نفكر فى المنحة الإلهية التى تنزّلت على مصر فهذبت أخلاق شبابها بدرجة كبيرة، فهى وإن كانت منحة سماوية إلا أنها لم تحدث بالمصادفة، وليس من التصور أن الشباب شربوا جرعة من زجاجة الأخلاق فهمدت الوحوش الضارية بداخلهم وتحولوا إلى جدعان ورجالة يصونون عرض البنات ويحمونهن من الأذى!، وأظن أن الفرصة قائمة الآن لدراسة ما حدث فهو ليس بالأمر الهين، ولو اكتملت دائرة حصار «التحرش» سنكون قد تخلصنا من كابوس هدد كل العائلات المصرية، وشغل حيزًا كبيرًا من تفكيرهم وتدابيرهم لحماية بناتهم، وهذه تفصيلة صغيرة كان لها تأثيرها فى العمل والإنتاج والشعور بالسلام وبالوطن ذاته، فكيف أسير فى وطنى مهددًا بظهور مفاجىء لذئب ينهش عرض ابنتى أو أختى أو حتى جارتى؟!
ربما أكون مبالغًا، لكن الأمر خطير من وجهة نظرى ويستحق جهدًا مشتركًا بين الدولة ممثلة فى وزارة الداخلية، والمركز القومى للبحوث الاجتماعية كواحد من أهم المراكز البحثية فى الشرق الأوسط يضم عباقرة من أساتذة علم الاجتماع. ورحم الله الباحث الكبير د. سيد عويس الذى لاحظ مطلع السبعينيات اهتمام المصريين بكتابة عبارات وأدعية على السيارات وأسوار الحدائق والمدارس فوضع كتابه الخالد «هتاف الصامتين» لدراسة الظاهرة وأسبابها الاقتصادية والدينية أيضًا.