استطاع محمد علي بعد مرور 7 سنوات تقريباً من توليه مقاليد الحكم في مصر…، أن يصل إلى قدرة اقتصادية وعسكرية عظيمة مكنته من التوسع الإمبراطوري المدهش، الذي كان يستحيل أن يتخيّله أي أحد بعد هذه السنوات القليلة. بدأ محمد علي بإسقاط الخلافة العثمانية، وإعلان خلافة جديدة من القاهرة، بعد أن وضع يده على كافة الدول المحيطة به، حتى وصل إلى مقر الخلافة العثمانية نفسها، واستطاع الاستيلاء على مدينة “قونية” التركية، وكاد أن يستولي على “الأستانة” لولا تدخل الإنجليز والفرنسيين في اللحظات الأخيرة. ربما نحن في حاجة إلى نهضة كالتي أحدثها محمد علي إبان حكمه لمصر، ربما نحن في حاجة إلى أن نتواضع ونخضع إلى تلك الحقيقة المؤسفة التي تقول بأننا أصبحنا في حثالة الأمم، وفي مؤخرة الحضارات في زمن الحداثة والعولمة، كما نجحنا في صنع أرقاماً قياسية في الفشل الزريع على المستوي الاقتصادي، والاجتماعي، والتعليمي…، ربما يكون هذا هو ناقور نعاسنا الذي دام لعقود من السنين. إن حقيقة أنّ مصر هي صاحبة المركز الـ 139 من 140 على العالم في التعليم، تضع وزراء التربية والتعليم تحت المسؤولية القانونية…، فرغم أن مجموع ما تحملته الأسر المصرية خلال عام 2004/2005 فقط قد تراوح ما بين 37 مليار جنيه كحد أدنى، و54 مليار جنيه كحد أعلى، ومع إضافة ما تنفقه الدولة في نفس السنة يتراوح الإنفاق المجتمعي العام للمجتمع المصري (الدولة والأسرة) ما بين 63 مليار إلى 80 مليار من الجنيهات…، ورغم هذا الإنفاق المذهل نحن من أكثر الأمم تخلفاً في مجال التعليم…، وعلى من يريد الزيادة فليرجع إلى الدراسة الرائعة التي جمعها د.عبدالخالق فاروق في كتابه “كم ينفق المصريون على التعليم؟”. يجب علينا أن نكفّ عن التفاؤل والأمل المبالغ فيهما، وننظر إلى حالتنا الراهنة نظرة واقعية، ومن ثمّ نستطيع أن نبدأ في العمل على إصلاح هذا الوضع المزري. إنّ محمد علي لم يقف على سلم الحضارة إلاّ بعد أن استقطب الخبراء والمهنيين، واستقدم الأعلام والمخضرمين من أوروبا – وخاصة فرنسا – في كافة المجالات، والتخصصات من أجل أن يتعلم منهم ويستفيد من خبراتهم. ونلاحظ أن سياسيات محمد علي في مصر قد تأثرت بالبيئة الأوربية التي عاش فيها قبل أن ينخرط في الجيش العثماني، مما أثر في الكثير من قراراته وتوجهاته. لقد استطاع أن يدرك وضعه الراهن، واعترف بالأزمات المتتالية التي ألحقها المماليك، ومن قبلهم العثمانيون بمصر، ومن ثمَّ بدأ بوضع الحلول التي من شأنها أن تخرجه من تلك الأزمة، وتساعده على إقامة النهضة التي يريد. وانتشرت في هذا العصر الذي استمر زهاء أربعين عاماً (1805 – 1841) مظاهر الحضارة الحديثة، التي كان يحلم بها محمد علي، فقام بتشييد الجسور، وبناء الكباري، وتمهيد الطرق، وإنشاء الورش والمعامل، وتنظيم الري والصرف، وإقامة المصانع الحكومية التابعة للدولة، وإنعاش الصناعة والتجارة، إضافة إلى تنظيم الدورة الزراعية والاهتمام بالمحاصيل الاقتصادية، وتدريب الجيش والسيطرة على الكثير من البلاد مما جعل مصر دولة ذات سيادة في هذا العصر. لقرون طويلة استمر النظام التعليمي في مصر يدور حول العلوم الشرعية والدينية ابتداءً من جامع الأزهر وانتهاءً بالكتاتيب التي كانت منتشرة في القري والنجوع، ولم تعرف مصر نظام التعليم الحديث وعلومه إلاّ على يد محمد علي منذ تولي الحكم في مصر عام 1805، وبداية تنفيذ مشروعه السياسي الطموح… فبدأ محمد على بإرسال البعثات العلمية إلى إيطاليا وفرنسا وانجلترا والنمسا للتعليم ولاكتساب الخبرات اللازمة، وكانت البعثات في بادئ الأمر تهدف إلى دراسة الفنون العسكرية، وبناء السفن والملاحة، وتعلم الهندسة والميكانيكا، ثم فيما بعد هدفت إلى دراسة العلوم السياسية والقانون…، وكان رفاعة رافع الطهطاوي إماماً لطلاب أول بعثة تعليمية إلى فرنسا 1826. كما استعان بالأجانب في تطوير التعليم وإنشاء المدارس وفقاً لأحدث المعايير الأوروبية، فأسس مدرسة الألسن بناءً على اقتراح رفاعة الطهطاوي لتدريس اللغات الأوروبية والترجمة من أجل الاطلاع على علوم ومعارف المجتمعات الأوروبية. وفي الفترة بين (1827 – 1837) تم إنشاء مدرسة الطب، والولادة، والبيطرة والهندسة التي سميت بـ”المهندس خانة”، ومدرسة المعادن، ومدرسة المحاسبين، والزراعة، والصيدلة والاقتصاد والفنون والصنايع وغيرها، كما أنشئت لجنة شوري المدارس، بالإضافة إلى ديوان المدارس الذي يعد أول وزارة للتعليم في مصر. كما أنشأ المطابع الأميرية أو مطبعة “بولاق” التي كان لها الفضل في طباعة ونشر العديد من الكتب الدينية والثقافية والاجتماعية والأدبية والتاريخية لأشهر المؤلفين والكتّاب، بعد أن كانت مخصصة لطباعة الكتب العسكرية فقط في البداية. وقد بلغ عدد المدارس التي أنشأتها الدولة في عهد محمد علي حوالي 1500 مدرسة رسمية، وأضحت الدولة المصرية جزءاً أساسيا من منظومة التعليم في مصر بجانب الكتاتيب والجامع الأزهر. ولم ينتهي هذا الحلم الجميل إلاّ بعد خضوع محمد علي تحت طائلة فرنسا وانجلترا بالتحالف مع الدولة العثمانية، واستسلم تاركاً حُلم النهضة الذي عاش يفكر فيه ويسهر على تحقيقه والعمل عليه. وعندما جاء خلفاء محمد علي لم يحاولوا إصلاح الوضع، وإنما زادوه سوءاً فوق سوء، وراحوا يقترضون من كل دولة وحِلف حتى تراكمت الديون على مصر، وتفاقمت المشاكل وتصاعدت الأزمات وانخفض عدد المدارس في عهد الخديوي سعيد وعباس من 1500 إلى 114 مدرسة فقط، وهنا ماتت النهضة. واستطاع النظام التعليمي في مصر أن يسترد بعض عافيته في عهد الخديوي إسماعيل، فزاد الاهتمام بالمدارس وارتفع عددها ليصل إلى 4500 مدرسة، كما تأسست لأول مرة مدرسة لتعليم البنات هي “مدرسة السنية”.
ثم عاد التعليم فتخلّف ثانية مع بداية الاحتلال البريطاني على مصر منذ يوليو 1882، حيث توقف التعليم المدني الحديث على تخرج أعداد من الكتبة والإداريين من أجل إدارة نظام متواضع للخدمة المدنية، وتقلصت مخصصات التعليم المالية، ففي عام 1900 لم تزد نفقات الحكومة المصرية عن 107 ألف جنيه والذي كان يمثل أقل من 1% من إجمالي مصروفات الميزانية.في كتابه “عودة الوعي”، يقول توفيق الحكيم بشأن نكسة 1967 وتخاذل جمال عبدالناصر من اتخاذ قرارات حاسمة بشأن الأعداء، مع استمراره في الخطابات التي كان “يلقيها من فوق منصات السرادقات وقاعات الاجتماعات، يحكي لنا الساعات الطوال هذه الحكايات ويشرح لنا كيف كنا وكيف أصبحنا، بلا أحد يناقش أو يراجع، أو يصحح أو يعلق، فما كنا ملك إلاّ أن نصدق ثم نلهب الأكف بالتصفيق”، إضافة إلى أن الحرب قد أظهرت كم كان الجيش ضعيفاً واهناً انهزم شرّ هزيمة، وهو الجيش الذي كان المصريون يدفعون له الضرائب بسخاء، وكان الساسة يتغنون ببطولاته وقواته، اتضح أن كل ذلك كان كذباً وخداعاً، بعد نكسة 67… في هذه الأثناء يقول توفيق الحكيم: “بعدما نجحنا في الانتصار على عدوان 1956 بمساعدة من الأمم المتحدة، نهضت عندئذ الفريسة التي نجت بمعجزة وأخذت تصيح في الآفاق: انتصرنا … انتصرنا … وتزعق الأناشيد في الأبواق، مشيدة بمعركة تماثل معركة ستالينجراد، قيل أنها في بورسعيد…، وقد لا يكون في ذلك ضرر ولا بأس، فما من عيب في رفع الروح المعنوية للشعب ولكن الضرر هو أن يكون الغرض هو خداع الناس، وليس رفع الروح، أن نتلاعب بكلمة النصر لنخفي عن الشعب أسباب عجزنا عن الدفاع عن أرضنا”. ثم يسرد توفيق الحكيم كيف انهزمنا شرّ هزيمة في 1967 على إثر ذلك الخداع وذلك الكذب. إن ما نراه اليوم من التفاؤل الشديد إزاء الأزمة التعليمية المصرية لهو حمق وغباءٌ بيِّن، فتري المسئول وقد اعتلى المنصة ليستهلّ في إلقاء خطاب عاميِّ ساذج، ويبدأ بطمئنة الشعب بأن حكومته تسيطر على الوضع، وهو يعلم وكلنا نعلم بأن الوضع غير قابل للسيطرة، وتراه يتنهنه ويتنحنح ويتحدث بلغة مستعطفة رقيقة ليكسب قلوب المطحونين من الطبقات الفقيرة، وليوهمهم بأن كل شيء أصبح على ما يرام، وبأننا نعيش في أكثر الدول تقدماً، وأعظمها أمناً، وأفضلها اقتصاداً، وأحسنها تعليماً، وأعدلها حكّاماً، وأحكمها رئيساً… ويوهمهم بأنهم لا يأكلون الرفات وإنما يأكلون اللحوم والكافيار، ويحاول أن يقنعهم بأنهم لا يعيشون في العشوائيات والمنازل الضامرة، بل يسكنون الفِلَل والقصور. إن هذا الخداع لن يفيد، وهذا الكلام المعسول وهذه النحنحة لن تُصلح الوضع، والحديث الساذج الذي ينسجه الساسة من أجل الغش والمراوغة والتفلّت من المسؤولية سيزيده سوءاً… وإنما الذي ينهي عذابنا ويخرجنا من أزمتنا هو التواضع والاعتراف بأخطائنا لكي نقدر على تصويبها، ولكي نحقق نهضة كالتي أحدثها محمد على باشا.