فى المعركة الدائرة حالياً حول التشريعات المنظمة للمجال الإعلامى تغيب حقائق كثيرة، حتى إن البعض أصبح يعتقد أن المشكلة التى تتفاعل الآن تتعلق بأن الجماعة الصحفية تريد قانوناً موحداً، فيما تريد الدولة أن تصدر قانونين، أحدهما لإنشاء الهيئات التى تدير هذا المجال الإعلامى، وثانيهما لتنظيم الصحافة والإعلام.
ليست المشكلة فى أن تكون التشريعات الإعلامية مجتمعة فى قانون واحد، يسمى «القانون الموحد للصحافة والإعلام»، أو أن تصدر فى أكثر من قانون، لكن المشكلة الكبيرة تكمن فى قدرة تلك التشريعات على تحقيق المصلحة العامة، واتساقها ضمن رؤية واضحة ومعلنة وناجعة ومتمتعة بقدر مناسب من التوافق.
فى السطور المقبلة محاولة للإجابة عن أهم الأسئلة التى يمكن أن تُثار فى هذه الأثناء بخصوص مشكلة التشريعات الإعلامية:
س: لماذا يجب أن تصدر تشريعات إعلامية؟
ج: يجب أن تصدر تشريعات إعلامية لأننا بحاجة إلى تنظيم المجال الإعلامى، الذى يعمل من دون قواعد وقوانين كافية للتعامل معه، أو يعمل وفق قوانين لا تتسق مع دستور 2014، ولا تتلاءم مع المستجدات والمتطلبات الحالية.
س: وكيف تجرى تلك العملية عادة فى الدول والمجتمعات المتقدمة؟
ج: تجرى تلك العملية عادة عبر ورش ونقاشات عامة مفتوحة بين كافة الجهات المعنية، بما فيها الرأى العام، للوصول أولاً إلى رؤية تحكم عملية التشريع، بمعنى أن التشريع لا يصدر لمجرد الصدور، أو لسد الخانات، أو تعزيز التحكم والسيطرة فى الأداء الإعلامى، وإنما يصدر لرؤية يجرى الاتفاق عليها، ويريد المجتمع، وتريد الدولة، ويريد أصحاب المصالح، أن ينقلوها إلى الواقع.
س: وما الذى حدث فى التجربة المصرية الراهنة؟
ج: لم يحدث هذا بطبيعة الحال. لقد كانت لدى الدولة، بسلطاتها المختلفة، مصالح، أو أمنيات وطلبات، وربما هواجس ومخاوف، لكنها لم تمتلك رؤية لإصلاح المجال الإعلامى وإعادة بنائه، أو على الأقل لم تعلن هذه الرؤية.
س: لكن الرئيس والحكومة والبرلمان وبعض الأجهزة والهيئات كثيراً ما انتقدوا الأداء الإعلامى، أو طالبوا بإصلاحه وتطويره، أو ألحوا للالتزام بمواثيق الشرف الإعلامية.. ألا يُعد ذلك رؤية؟
ج: لا طبعاً. تلك آمال أو ضغوط أو مخاوف أو هواجس. الرؤية عمل مكتمل يتضمن اقتراحاً للعناصر الكاملة التى يجب أن يكون عليها المجال الإعلامى، لتلبية استحقاقات وطنية ومهنية واقتصادية وأخلاقية، كما تتضمن آليات مقترحة للوصول إلى تحقيق الأهداف المبتغاة.
س: هل يعنى هذا أن الدولة لم تكن جادة فى مقاربتها للمجال الإعلامى والإعلاميين؟
ج: لم تكن الدولة تريد إعادة بناء النظام الإعلامى، أو إصلاح الإعلام، بقدر ما كانت تريد ضبط الأداء الإعلامى وتطويعه، ضمن رؤيتها للدور الذى يحقق المصلحة الوطنية كما تُشَخِّصها هى.
س: وماذا عن الجماعة الصحفية والإعلامية؟
ج: الجماعة الصحفية والإعلامية لديها قدر أكبر من الالتزام تجاه الاعتبارات المهنية والأخلاقية، ولديها مصلحة واضحة فى حماية المهنيين، واستدامة الصناعة، وبالتالى، فقد طورت رؤية لما يجب أن يكون عليه المجال الإعلامى الوطنى، وانتظمت ضمن «اللجنة الوطنية لاقتراح مشروعات قوانين الصحافة والإعلام»، واقترحت مشروع قانون الصحافة والإعلام الموحد، ومشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر. لكن تلك الرؤية اصطدمت بمصالح الصحفيين والإعلاميين أنفسهم، وارتباطهم المعنوى والمادى بالمؤسسات القومية التى يعملون بها، وهى مؤسسات غارقة فى الديون والهدر، لكن أحداً لا يريد أن ينظر فى أمرها ليصلحها أو ينهى ما تسببه لنا من خسائر، مادامت تلبى مصلحة أو تنهض بمهمة.
س: وكيف يجب أن تكون الرؤية إذن؟
ج: الرؤية يجب أن تكون مبنية على موقفنا مما يجب أن نتخلص منه، وما يجب أن نحصل عليه، بخصوص المجال الإعلامى الوطنى.
وبالتالى، فنحن نريد تشريعات إعلامية تزيل العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر، وتضمن الحق فى تداول المعلومات، وتُنشئ نقابة للإعلاميين، وتضمن حق الصدور بطريقة ديمقراطية، وتصون التنوع والتعدد، عبر إتاحة الفرص للأطراف الراغبة فى تطوير تعبيرات إعلامية للحصول على ما تريد، فى إطار عادل ومتوازن.
نريد تشريعات إعلامية تضمن إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام كهيئات مستقلة، وليست كتعبيرات سلطوية عن الحكومة أو «البرلمان»، على أن يكون تشكيل هذه الهيئات متوازناً، بحيث يمنح الفرص للسلطات الدستورية، والجماعة المهنية، والمجتمع، وأصحاب الكفاءات، لكى يُمَثَّلوا فيها.
نريد تشريعات إعلامية تحول وسائل الإعلام المملوكة للدولة إلى وسائل «خدمة عامة»، بمعنى أن تكون مستقلة، ومحايدة، وغير خاضعة لسيطرة السلطة التنفيذية، لكننا نريد أيضاً أن نتجنب إعادة إنتاج الأوضاع القديمة فى تلك الوسائل. نريد تشريعات تضمن لنا إعادة هيكلتها بطريقة تجعلها أكثر رشاقة من وضعها الحالى (52 صحيفة، و22 تليفزيونا، وعشرات الإذاعات والمواقع الإلكترونية)، وأقل هدراً وخسائر (أكثر من 30 مليار جنيه ديوناً)، وأقل ترهلاً (نحو 70 ألفا من العاملين).
نريد تشريعات إعلامية تدير تلك الوسائل بطريقة «تكامل الأصول»، وهى طريقة يمكن أن تسفر عن عمليات دمج وإلغاء وتطوير، تحول تلك المنظومة، الآخذة فى التدهور، إلى منظومة أخرى أكثر ذكاء وأقل حجماً وأكبر تأثيراً، دون أن تلقى بالمزيد من الأعباء على الميزانية العامة المُنهَكة.
كل ما يُقال عن الخلاف الدائر حالياً يجب أن ينطلق من رؤية معلنة حتى يكون مجدياً. لا يهمنى إن كان القانون مقسوماً أم موحداً، لكن يهمنى إلى أى حد يعكس رؤية متسقة، تلبى المصلحة العامة، وتحترم الدستور.
إن أى منظومة تشريعية لا تلبى تلك الاستحقاقات، وتحقق تلك الأهداف، ستكون قاصرة وغير فعالة، بصرف النظر عمن اقترحها، وبصرف النظر عن كونها صدرت فى قانون أو قانونين.