نقلًا عن مجلة “7 أيام“
ضبطت نفسى متلبسًا أكثر من مرة.. وبالعمد وسبق الإصرار والترصد.. بانتقاد المجتمع الذى أعيش معه وأنتمى إليه وأقتسم معه الوطن والحياة والأيام.. كتبت كثيرًا أنه مجتمع فقد معظم من فيه عقولهم ولم يعودوا يحبون أو يريدون ممارسة التفكير..
كلمة واحدة أو صورة يمكنها أن تقودهم إلى أى طريق دون أى وعى وإدراك أو قرار واختيار.. وكان معنى كلامى أو اتهامى هو أن المجتمع الحالى أصبح يسهل خدعه والتلاعب بمشاعره وقناعاته وأفكاره وأحكامه.
لكننى عدت من جديد وقررت مواجهة نفسى ومصارحتها بما هو عدل وحق.. فإن كان المجتمع الحالى سهل الانقياد هكذا ويمكن لأى أحد أن يخدعه أو يقرر بالنيابة عنه أو يغرس تحت جلده ما يشاء من أفكار خاطئة وصور مشوّهة وأكاذيب.. فماذا عن المجتمع المصرى فى الستينات والسبعينات من القرن الماضى.. مجتمع الأناقة والاحترام والإبداع الفكرى والفنى والتنوير والتغيير؟.. مجتمع نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وهيكل ومصطفى أمين وصلاح جاهين وإحسان عبدالقدوس.. مجتمع أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وشادية.. هذا المجتمع الذى يظن كثيرون الآن أنه كان أفضل منّا وأكثر وعيًا وعمقًا وثقافة وإدراكًا.. هو نفسه المجتمع الذى كان مجرد فيلم سينمائى مثل فيلم الناصر صلاح الدين قادرًا على خداعه وقيادته لتصديق أكاذيب لا أول لها أو آخر.. فصلاح الدين الأيوبى لم يكن قائدًا عربيًا إنما كان كرديًا.. ولد فى تكريت فى بيت نجم الدين أيوب الذى تعود جذوره إلى مدينة دوين فى أرمينيا.. وعيسى العوام لم يكن مسيحيًا إنما كان مسلمًا وأحد أبرع جواسيس صلاح الدين باستطاعته السباحة ليدخل ويخرج من عكا المحاصرة.. ومات عيسى العوام قبل انتصار صلاح الدين واسترداد بيت المقدس.. وهناك تمثال صغير له فى مدينة عكا مكتوب تحته.. البطل المسلم عيسى العوام.. ووالى عكا لم يكن خائنًا ولم يتحالف مع الصليبيين ضد العرب وصلاح الدين.. وبقى داخل عكا وسط رجاله يقاومون الحصار ويرفضون التسليم عشرين شهرًا طويلة وقاسية.. ولم يقبل والى عكا بتسليم المدينة إلا بعد وعد من قادة الصليبيين بالمحافظة على حياة أهلها.. وبمجرد أن دخل الصليبيون عكا كان والى عكا هو أول الضحايا حيث ألقوا به حيًا من فوق أسوار المدينة إلى جانب ألفى رجل وامرأة تم قتلهم جميعًا بمجرد فتح الأبواب.. ولم يكن فى كل تاريخ الصليبيين والعرب وحكاياتهم أى أميرة اسمها فيرجينيا جميلة الجميلات.. ولم يثبت مطلقًا أنه كانت هناك أى زوجة للملك رينو اسمها فيرجينيا.. ولم تكن لفرسان المعبد أو الهوسبيتاليين أى قائدة امرأة سواء كانت قبيحة الملامح أو فى جمال نادية لطفى التى كانت فى هذا الفيلم هى لويزا قائدة الهوسبيتاليين.. ثم إن ريتشارد قلب الأسد لم تكن لديه أى أخلاق على الإطلاق.. واعتاد بعد نفاد الخنازير التى أحضرها معه من أوروبا أن يأكل لحم الأسرى العرب بعد قتلهم.. والثابت تاريخيًا هو أنه لم يكن هناك أى سهم عربى أصاب ريتشارد الذى أصلاً لم يقبل دعوة صلاح الدين للحج فى أورشليم بل وقام بقتل رسول صلاح الدين الذى ذهب إليه حاملاً الدعوة.. وحين أصيب ريتشارد قرروا إعادته إلى أوروبا لإكمال علاجه إلا أن ليوبولد ملك النمسا قام بأسر ريتشارد انتقامًا لمقتل كونراد دى مونفران ومات ريتشارد قبل أن يعود إلى إنجلترا.
كل هذه الأكاذيب تحوّلت إلى حقائق فى ذاكرة وأذهان المجتمع المصرى وقتها بكل ما كان يملكه من ثقافة ورقى ووعى وتحضّر.. مجتمع لا يمكن اتهامه بأنه مجتمع محمد رمضان والعنف والبلطجة والمخدرات والذى أفسدت شبكات التواصل الاجتماعى أخلاقه وأفقدته اتّزانه وسرقت منه العقل والوعى والتفكير.. المجتمع القديم المثقف الراقى تلاعب به مجرد فيلم سينمائى فلماذا نلوم الآن مجتمعنا الحالى إذا تلاعبت به الشائعات والصور والحكايات والأهواء.
وإذا كان هناك من لا يطيقون جمال عبدالناصر وثورة يوليو والمجتمع الذى تربطه أى صلة أو علاقة بعبدالناصر وثورته وزمانه.. فإن هناك كثيرين جدًا يحبون المجتمع الملكى قبل ثورة يوليو ويشعرون بالحنين إليه ويتحاكون عن إنجازاته وعظمته ونجاحاته ويكادون يبكون حنينًا إلى ذلك الزمن الجميل والبعيد.. مجتمع راقٍ جدًا بكل قصوره وباشواته وأرستقراطيته وفنونه وأوبراه ولياليه وكتاباته وأفلامه.. هذا المجتمع تعرّض هو الآخر لحكاية خداع شديدة السذاجة والغرابة أيضًا..
الحكاية اسمها ياسين وبهية.. الأسطورة الشعبية التى بدأت فى ذلك الزمن كواحدة من أهم وأشهر وأرقى قصص الحب على الأرض المصرية إن لم تكن أرقاها على الإطلاق.. بحيث أصبح كل رجل يحلم بأن يكون ياسين وتتمنى كل فتاة وامرأة أن تكون بهية.. بل إننا لاحقًا أصبحنا نرى أن مصر نفسها هى بهية وليست أى امرأة أخرى.. مع أن الحكاية الحقيقية لم تكن أكثر من جريمة اغتصاب.. نعم.. ياسين اختطف بهية من أهلها وذهب بها إلى الجبل حيث قام هناك باغتصابها وإجبارها على معاشرته جنسيًا حتى أنجبت له ولدًا أسماه عربى.
الحكاية روتها جريدة الأهرام فى عددها الصادر يوم التاسع من شهر ديسمبر عام 1905.. وأعاد روايتها أكثر من مفكر ومؤرخ وأديب.. وتتلخص فى أن ياسين الذى ينتمى إلى قبيلة العبابدة التى تعيش على حدود مصر والسودان.. كان أحد أكبر وأشهر قطاع الطرق فى جنوب الصعيد.. بل وقيل إنه أقسى وأجرأ مجرم عرفته مصر فى تاريخها.. يحب الدم والموت ويحب أن يقتل الناس ويحب أن يخافه الناس..
وكان من الممكن أن يعيش هكذا طويلاً بعد أن فشلت جميع الحملات التى أرسلتها الحكومة للقبض عليه حيًا أو ميتًا.. لولا أنه اصطدم ببعثة عسكرية ترأسها ضابط شاب اسمه محمد صالح حرب كانت مهمتها الذهاب إلى وادى حلفا لشراء سرب من الجمال للخدمة فى سلاح الهجانة.. وفى طريق العودة أطلق ياسين النار على قائد البعثة.. لكن القائد الذى كان يتمتع بقدرات خاصة فى الرماية.. نجح فى غرس إحدى رصاصاته فى قلب ياسين..
وبعد موت ياسين دخل الرجال مغارته المظلمة وإذ بهم يكتشفون داخلها امرأة تصرخ وبجوارها طفل يبكى.. فلما عرفت المرأة بموت ياسين حتى انطلقت تزغرد تعبيرًا عن حبها وسعادتها بخلاصها من هذا الرجل الذى أخيرًا مات مقتولاً.. وقالت بهية لرجال الجيش إن ياسين اختطفها من أهلها وأجبرها على البقاء معه دون زواج..
وحاول اللواء إبراهيم الفحام فيما بعد الدفاع عن ياسين وأشار إلى أن بهية كانت زوجته بالفعل وبكامل اختيارها وإرادتها وإنما ادعت حادثة اختطافها واغتصابها حتى لا تحاكم أولاً باعتبارها زوجة وشريكة السفاح وحتى لا يقتلها أهلها ثانيًا خلاصًا من عارها باعتبارها تزوّجت من رجل غريب وأنجبت منه دون رضاهم..
ولا يعنى ذلك إلا الموت.. لكن رائد التراث الشعبى زكريا الحجاوى أعاد التدقيق والتحقيق فى كل تفاصيل الحكاية وانتهى إلى أنه لم يكن هناك زواج ولا قبول أو قناعة.. لكن خطف واغتصاب وفعل فاضح فى التاريخ سرعان ما أحاله البعض منّا إلى قصة حب مدهشة وخرافية تستحق أن تحفظها مصر ويتناقلها أهلها جيلاً بعد جيل يبكون على ياسين العاشق المقهور وعلى بهية التى بلغت الوقاحة والصفاقة ببعضنا أن اختارها رمزًا وشعارًا لمصر..
فكأن بهية هى مصر أو مصر هى بهية.. كأن مصر هى تلك الفتاة المغتصبة أو المرأة التى رضيت أو اضطرت لمعاشرة رجل فى الحرام ليلة بعد ليلة وعامًا بعد آخر..
وتصبح الرغبة فى معرفة قاتل ياسين سؤالاً مقدسًا نتغنى به جميعًا فتنفرط لحظات الشجن والأسى حين يطلّ علينا أحدهم بصوت زاعق.. يا بهية وخبرينى ع اللى قتل ياسين؟!..
وأنا أستأذن الجميع فى أن أريح مصر كلها من مثل هذا التساؤل المستفز والبليد وأقول لهم إن قاتل ياسين هو اللواء محمد صالح حرب.. ضابط الجيش الذى أصبح فيما بعد وزيرًا للحربية.
الحكاية إذن ليست عصرًا يختلف عن عصر.. ومجتمع يختلف عن مجتمع.. ففى كل العصور كان المجتمع المصرى قابلاً للخداع والانقياد وراء الأكاذيب والأوهام.. سواء كان هذا المجتمع يحكمه ملك أو مجلس قيادة ثورة أو رئيس بالاستفتاء أو الانتخاب..
سواء كان هذا المجتمع يقرأ للعقاد وطه حسين أو نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس أو أجندة زاب ثروت ويسمع عبده الحامولى أو أم كلثوم وعبدالوهاب أو عبدالحليم وفريد الأطرش أو منير والحجار أو سعد الصغير وسما المصرى.. ولا أقول ذلك من باب اليأس وأنه لا أمل هناك فى التغيير والنضج واكتساب الوعى..
إنما أقوله لأننا فى كل مرة.. وكل عصر.. كنّا نفتش عن الحل الصحيح فى المكان الخطأ.. كنّا دائمًا نجلس ننتظر من سيأتى ويقودنا إلى الطريق الصحيح.. لم نفكر أبدًا من قبل فى أن نمشى نحن بأنفسنا دون أن يقودنا أحد.. لم نفكر أبدًا من قبل فى أن التغيير يجب أن يبدأ من داخلنا نحن.. ليس بأوامر وتوجيهات سلطة ورئاسة وحكومة..
ليس بأفلام وكتابات وأغانٍ.. إنما بكامل إرادتنا واختيارنا وقرارنا واقتناعنا بأن التغيير الذى لا يأتى ويبدأ من داخلنا.. محكوم عليه بالفشل مهما طال الزمن وكثرت محاولات تجميله والإبقاء عليه.