كس المسلسلات الدرامية المعروضة علي شاشات التليفزيون في شهر رمضان المبارك العديد من الظواهر اللافتة. ورغم أن كل نظريات الفن وعلومه تنفي مقولة أن الفن مرآة للواقع حتى المدرسة الواقعية ذاتها. الواقع في حد ذاته هو تعبير مطاطى ومبهم لأنه ناتج من انطباعات شخصية أو جمعية عن أحداث بعينها. ويشوب ما نسميه الواقع الاجتزاء و التعميم في حين أن أبلغ وصف لاى ظاهرة اجتماعية أنها (رؤيتنا للواقع). نفس الأمر ينطبق علي الأعمال الفنية حتى التى يطلق عليها واقعية، انما هى رؤي شخصية للفنان (المؤلف والمخرج هنا) لأحد جوانب الواقع. لكننا لا نستطيع أن نعفى الفن من تأثيره في المتفرجين ولا نستطيع كذلك أن نجزم أنه صاحب تأثير مباشر عليهم كأنهم مسلوبو الارادة. إن تأثير الأعمال الفنية مثله مثل تأثير العائلة أو المدرسة أو برامج التليفزيون: كلها تشارك في تصنيع الوعي وتكوين السلوك الانسانى. المسلسل الأهم الذى يؤكد تلك الرؤية هو أفراح القبة المأخوذ عن الرواية التى تحمل نفس الاسم للاديب العالمى نجيب محفوظ والذى قام باخراجه الموهوب محمد ياسين.
يحكى المسلسل عن فرقة مسرحية على أهبة الاستعداد لعمل مسرحي جديد، يجتمع الممثلين لقراءة أدوارهم ليكتشفوا أن الرواية التى هم بصدد تنفيذها مرتكزة بشكل أساسى علي حياتهم الحقيقية، وربما على أسرارهم. أجمل ما فى المسلسل هو تنقله بين مستويات وازمنة عدة بين تلك المسرحية ( الكاشفة عنهم) والتى تحكى أهم محطاتهم خلال عشرين عاما من حياتهم والعودة بالفلاش باك لكشف ملابسات تلك الاحداث وكواليسها. كان هذا المسلسل من سيناريو محمد أمين راضي لكنه اعتذر عن عدم استكمال العمل بعد كتابة 15 حلقة، وعند بدء عرض المسلسل قال المخرج محمد ياسين أن الكاتبة نشوى زايد ( ابنة السيناريست الراحل محسن زايد) أعادت كتابة الحلقات منذ البداية وانها الكاتبة الحقيقية للمسلسل المعروض الآن. تقول نشوى فى أحد تصريحاتها القليلة عن سبب كتابتها المسلسل : (علشان الناس بقيت بتحكم على بعض و بتعلق المشانق لبعض و بتسمح لروحها تحاكم و تتهم أقرب الناس ليها على الملأ و بيقولوا ان دي الحقيقة... سؤال بقى علشان يحصل ايه ... علشان يحصل اللي حاصل دلوقتي تحت فعل المشاهدة انهم يقفوا، يمكن واحتمال ولو للحظة، قبل ما يحاكموا الناس على منصة خشبة التواصل الاجتماعي»، ويشوفوا ان ممكن تبقي الحقيقة مش هي هي الحقيقة للآخر ...
واضح طبعا مما قالته إنها تكسر فى المشاهدين واحدة من أسوأ صفاتهم وهى الحكم التعسفي على الآخرين. والأمر يستحق الدراسة المطولة والتحليل النفسي عن كيفما وصلت هذه الصفة الى مستوى السيطرة المطلقة على أخلاقنا كشعب. الكثيرون منا يطلقون صفات مطلقة عمن حولهم رغم أن الف باء المعرفة الانسانية ان كل انسان هو كائن مركب من الصفات لا يجوز معها ان نحصره فى صفة واحدة غالبة. جزء من التربية فى الثقافة الغربية الا ينصب الأطفال المقاصل لاقرانهم، وأن يتعلموا قيمة الاختلاف وان البشر أصحاب جوانب متعددة وأحيانا متناقضة. اذا تعلمنا ذلك نحن سنرتقي حتما وستكون حياتنا أفضل ولن نهدر الوقت الكثير فى النميمة عن الاخرين وسنتخلص من سوء تقييم لمن حولنا. والكاتب الشاب للمسرحية ( عباس) الذى نشك أنه الابن غير الشرعى لسرحان من علاقة مع موظفة شباك التذاكر (حليمة) الذين سارعوا لتزويجها سريعا لملقن المسرح (كرم يونس). طارق يحب تحية الممثلة الناشئة التى تحلم بدور البطولة وتفعل أى شئ لأجله لكنه يرفض الزواج منها لتعقيداته الداخلية وربما لأنه فى علاقة غرام معها دون زواج فتترك نفسها لحب عباس رغم انه اصغر منها وتقبل الزواج منه لكن تحية تقتل لنتابع حبكتين معا، وهى البحث عن قاتلها مع تفسير أسرار واقع المسرحية الفاضحة لهم. أضافت المؤلفة عائلة تحية بالاحداث المكونة من عبده أبيها القواد الشاذ وأمها التى تشغل ابنتهما الكبرى سنية بالدعارة واختهم الصغرى الوحيدة المتعلمة علية التى ترتقى فى عملها بالصحافة من اقامة علاقة غير شرعية مع رئيس التحرير. وأضافت المؤلفة الكثير من الخيوط أغلبها من عالم نجيب ورواياته المختلفة كروايتى الطريق والسراب. وهذا مكمن موهبة نشوى البالغة التى تأخر ظهورها كثيرا. يثبت المسلسل أن البشر يفعلون أى شئ للنجاح حتى لو كان القتل وأنهم يتهربون من اى مسئولية وأن الجميع خطاءون.