مصر وإثيوبيا.. وبينهما إسرائيل! هذه هى أحد أهم أبعاد «أزمة سد النهضة», ونستطيع القول الآن ونحن مطمئنون لحد كبير, بأنها (كانت) أهم الأبعاد حتى ماض قريب, فمنذ تولت القيادة السياسية الحالية زمام الأمور فى البلاد, وبدا حرصها على استعادة الدور المصرى الرائد والفاعل على كافة المستويات، خاصة فى أفريقيا, فظهرت فى الأفق بوادر جيدة, كنتيجة لتبنى السياسة المصرية الخارجية لاستراتيجية مختلفة فى تعاملها مع الدائرة الأفريقية, تسعى من خلالها الآن إلى تعزيز سبل التعاون لتحقيق المصالح المشتركة بيننا وبين دول القارة السمراء.
فالطبيعة تأبى دائماً الفراغ, هكذا تقول القاعدة, وقد تركنا فراغاً كبيراً عميقاً فى أفريقيا لسنوات وسنوات, جاءت وملأته الدولة الإسرائيلية بما يحقق لها مصالحها الاستراتيجية وأمنها المائى الذى كان من ضمن أهم الأهداف الصهيونية كما أوضحنا من قبل فى مقالاتنا السابقة, وبما يشكل فى نفس الوقت تهديداً خطيراً علينا, بات هذا التهديد جلياً ومباشراً، خاصة فى السنوات الأخيرة على أمننا القومى والمائى, بل ووجودنا, وعلينا أن نعى جيداً أننا نواجه حرب وجود!
ولعلنا ندرك حقيقة أن الواقع السياسى والجغرافى والتاريخى يؤكد لنا وجود مصلحة وطنية لمصر مع دول حوض النيل, وقد وجب على الدولة المصرية وهى تسعى للدفاع عن أمنها المائى, أن تعمل أيضاً على توضيح موقفها المتوازن الذى عبرت عنه القيادة السياسية أثناء زيارتها فى مارس الماضى لـ «أديس أبابا» بتصريحاتها حول حرصها ودعمها التام للمصالح الإثيوبية ومشروعاتها التنموية, وذلك فى حدود قواعد الحفاظ على المصلحة الوطنية والأمن القومى، وهو موقف رسمى معلن صريح ومحدد, يراعى أحكام القانون والعرف الدوليين, وإعمالاً بقاعدة لا ضرر ولا ضرار, وينطوى على التعامل بموضوعية وعدالة مع قضايا ومشكلات حوض النيل, حيث إن إدارة أزمة السد تستلزم إدارة التعارض ما بين مصالحنا العليا والمصالح العليا أيضاً لدول حوض النيل, الأمر الذى يتطلب حتمية إحداث توافق وتوازن بين أهداف ومصالح الطرفين، بواقعية وموضوعية وإيجابية.
وفى هذا الصدد, وقبل أن نفرد مساحة لاستعراض وإلقاء الضوء على دور الدولة المصرية وسياساتها الخارجية فى التعاطى مع ما يواجهنا من مشكلات فى أفريقيا, تأتى على رأسها أزمة «سد النهضة», وما حدث مؤخراً فى القمة السداسية الأخيرة التى عقدت بين وزراء الخارجية والرى بالدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا, والتوقيع على «وثيقة الخرطوم».. فدعونا أولاً نرجع إلى الوراء قليلاً ونلقى نظرة على الدور الإسرائيلى فى أزمة السد من خلال مبادرة مهمة جداً وخطيرة, وهى «مبادرة حوض النيل» التى خرجت من رحمها فكرة إنشاء «سد النهضة», فهل تعلم قارئي العزيز بأن لإسرائيل طابقاً كاملاً فى وزارة الموارد المائية والكهرباء فى «أديس أبابا»!، وأن إسرائيل قامت أيضاً بتدريب 500 مهندس رى إثيوبى فى «تل أبيب»!، كما قامت بتوقيع اتفاقية بين وزارة الكهرباء الإثيوبية وشركة «تل أبيب» لإدارة كهرباء إثيوبيا!، هذا وقد نشر بمجلة «النيوزويك» الأمريكية تقريراً ذكر فيه أن (الغرض من إنشاء «سد النهضة» هو السيطرة على المياه)!
وتعد «وثيقة حوض النيل» بمثابة الفخ الذى وقعت فيه كل من مصر والسودان مع باقى دول حوض النيل, فقد جذرت لأسباب الخلافات ما بين مصر والسودان من جانب وباقى دول المنبع من جانب آخر, فهى بالأساس فكرة صهيونية, أعدها «هاجى إيرليخ» خبير مياه إسرائيلى، فى دراسة مكونة من 280 صفحة تحت اسم «الصليب والنهر.. إثيوبيا مصر والنيل», وتم العمل عليها حوالى 10 سنوات, قبل الخروج بفكرة الوثيقة, وذلك بالتمويل من المؤسسة الإسرائيلية للعلوم ومعهد السلام الأمريكى, فقد خططت إسرائيل لتضخيم فكرة أن يصبح نهر النيل (مسألة حياة أو موت) بالنسبة لدول المنبع وأيضاً لدول المصب, ومن ثم تصبح البيئة صالحة لزرع الفتن وتأجيجها, معولة على ما تعانيه معظم دول المنبع، خاصة إثيوبيا من ظروف معيشية سيئة وفقر و.. ثم عملت على الترويج بأن نهر النيل هو الكنز وهو السبيل إلى النمو والتنمية, فهو «النفط الأبيض»! وقد انتهت هذه الدراسة إلى ضرورة بناء إثيوبيا لـ 26 سداً من بينها «سد النهضة», ودفع دول الحوض لتوقيع اتفاقية جديدة تجمع كل دول حوض النيل فى اتحاد جديد (الهدف الأساسى منه هو إلغاء الاتفاقيات السابقة «اتفاقية 1929م, واتفاقية 1959م, تحدثنا عنهما فى مقالنا السابق), وقد تخفت إسرائيل وراء البنك الدولى وبعض المنظمات الأوروبية لتنفيذ مخططاتها, حيث بدأ البنك الدولى وعدد من المنظمات فى تقديم مشاريع سبقتها دراسات علمية دقيقة وتفصيلية عن استخدامات دول حوض النيل للنهر, وبدأت بالمطالبة فى العديد من المؤتمرات الدولية بضرورة تأسيس مفوضية أو مبادرة جديدة لإدارة المنح التى سيقدمها البنك وتلك المنظمات لتمويل المشروعات التنموية المقترحة, وبالفعل تم عقد «مبادرة حوض النيل», وألحقت بها الاتفاقية الإطارية «عنتيبى» التى تضمنت ثلاث نقاط خلافية وهى: حق الإخطار المسبق بالمشاريع المائية, اتخاذ القرارات بالأغلبية بدلاً من الإجماع, وإلغاء الاتفاقيات السابقة!، لذا اعترضت القاهرة والخرطوم ورفضتا التوقيع على «عنتيبى» وتم تعليق النشاط.
ولنا أن نعلم أيضاً أنه إذا أنشأت إسرائيل كياناً اقتصادياً مع دول المنبع، فسيكون من حقها الحصول على المياه، وهو ما نسعى إليه عبر المادة المتعلقة باتخاذ القرار الواردة فى «عنتيبى».
والدور المصرى فى هذا الشأن سيكون محتوى مقالنا القادم بإذن الله.
نقلا عن جريدة الوفد