لم يعد يؤرقهم إلا الاستمرار..
والاستمرار الذى يعنى إلغاء الآخرين.. أى آخرين.. كل مختلف فى الشكل والموقف والذوق والمزاج والثقافة.. كل من لا يشبههم مطارد وملاحق فى كل المناحى من العمل بالسياسة، والتعبير عن مواقفه وحتى حياته الشخصية.. لماذا تتمرد على كتالوجاتنا؟
هذه مهمتهم التى لا يرون فيها أنهم ذاهبون من فشل إلى فشل.. لم يشغلهم التفكير فى توقيف العمليات الإرهابية، ولا أن ضباطا وعساكر يُقتلون كل يوم ليس فى سيناء، لكن فى القاهرة وفى كل مدينة مصرية؟ لم يشغلهم توقيف الإرهاب قدر ما شغلهم استخدامه ورقة إفناء الآخرين وأداة سيطرة على ما أفلت من سيطرتهم ما بعد 25 يناير؟ لم يتوقف أحد منهم ومن بينهم كهنة عالمون بأمور كيف تدار الدول الاستبدادية، فى أنهم لا يجدون «نخبة تحكم» كما كان أيام مبارك، واضطر هو إلى السير نحو كارثته وكارثة البلاد، حيث حكم جهاز أمن الدولة.
لم يتوقفوا ليمنعوا السير نحو كارثة «الحكم بالأمن..».. وتدمير كل ما يمكن أن يتأسس عليه مجال سياسى أو قوة قادرة على الحكم.. أو ما يبعد البلاد عما تفعله الأجواء المغلقة فى البلاد التى تخرج من غيبوبتها الطويلة..
هل يعلم الرئيس الفيلدمارشال السيسى أن سوريا والعراق كانتا دولتين مغلقتين، وهذا أحد أسباب تدميرهما بالكامل، أو وقوعهما فى قبضة الإرهاب؟ سوريا والعراق ليستا مصر، لأنها دول ركبتها الطائفية وامتصها الاستبداد، ولم تجد سوى قوة المجتمع «فى شبابه وتنظيماته وقوته السياسية على هشاشتها» التى هربت من قبضة الأمن.. وأنقذت الدولة والمجتمع بإسقاط مبارك وعصابته؟
مرة أخرى: الثورة بقواها أنقذت الدولة من مصمصة المافيا الحاكم.. وهذا يستدعى خطوات يبدو أن لا أحد فى الحكم الجديد مشغول بها..
ويبدو أيضا أن الرئيس السيسى مشغول بأشياء أخرى:
1- أنه يريد من جماهيره أن تعود إلى بيوتها وتتفرج عليه فى التليفزيون.. وتستجيب له عندما يستدعيها...
2- ويتخيل أنه سيحل مشكلات السياسة دون سياسة..
3- السياسة تثير حنق العسكرى وتجعل الدم يغلى فى عروقه ويوزع الاتهامات فكل سياسى خائن حتى يعلن الولاء والطاعة..
4- ولأنه لا يثق فى أحد.. فيترك كل الأطراف تلعب حوله ما دامت لا تقترب من سلطته.. متخيلا أن الشعبية رصيد دائم.. ولا يعرف أنها كما جاءت سريعا ستذهب سريعا..
5- ومن المسافة بين تصور السيسى عن ذاته والواقع الذى يتشكل حوله وبأسرع منه، تنصب الفخاخ وتكبر نزعة كورية نحو إغلاق البلد علينا، والعيش فى الخرافات... هذه النزعة خفيفة جدا، لكنها تكبر أحيانا عندما يكتشف حجم المشكلات التى لن تحلها الأدعية إلى الله، أو المعجزات التى يتصور البعض أن الرئيس سيخرجها من بين هذا الركام الذى نعيشه..
6- لهذا يريد الرئيس المارشال، وكما يقول فى كل مناسبة، إعلامًا داعمًا له كما كان يدعم عبد الناصر، متناسيا أن الإعلام يرتبط فى ذهن المصريين بالهزيمة.. وأنه فى التصور العام شريك بالكذب والخداع.. هل يريد إعلاما خادعا؟ وماذا يريد غير أكثر من إغراق الشاشات بكل ما ينشر السموم والآفات التى لا علاج منها؟ ماذا يريد أكثر من غياب تام للآراء المختلفة أو الأفكار المختلفة.. حتى من يخرج قليلا عن الخط فإن المحطات تقطع عنه البث؟
7- هذا التصور للإعلام يقابله تصور بأن السياسة لعنة لا بد من إلغائها فى إطار أنها مصدر الخطر.. والثغرة التى ينفذ منها الاختلاف.. والرئيس المارشال لا يعمل فى ظل الاختلاف، ويعتبره ما زال رفضا للأوامر، ولهذا فإنه يبحث عمن يمنحه الأمان ولو كان ذلك خروجا من التاريخ وليس من السياسة فقط.. ويستدعى من مخازن الكهنة الدكتور الجنزورى كبيرهم، الذى سيقود «صناعة البرلمان..» ليكون على مقاس المارشال.