لصوص طيبون. هذا ما تحلم به أحيانا عندما تغلق السموات أبوابها عن أمنيات صعبة وتصبح الأرض ملعبا لمباراة فوق طاقة البشر المستسلمين للأقدار. استسلام الانتهازى، المتواطئ، الباحث عن فرصة. هنا يظهر اللص الطيب كفيلسوف أو حكيم، غادر موقعه ليدخل فى اللعبة. ولا أعرف من أين أتت الحالة التى جعلت قطاعا لا بأس به ينتظر أن يكون اللص الذى سرق لوحة «زهرة الخشخاش» وطنيا. يصحو ضميره ويعيد اللوحة إلى متحف محمد محمود خليل... الذى تبرع بالقصر إلى الدولة.. والدولة حولته إلى جنة اللصوص، كما ظهر عندما سرقت أغلى لوحة فى العالم بطريقة بدائية أو بطريقة أوحت بأنها خطة رأس كبير من رؤوس نظام مبارك، الذى سقط بعد عملية السرقة بفترة قصيرة جدا.
محمد محمود خليل، نفسه شخص غريب من نوعه. كان وزيرا للزراعة فى حكومة النحاس، ورئيسا لمجلس الشيوخ مرتين، لكن شهرته كانت فى الفن، والهوس بتلك الطاقة، التى تجعل قطعة قماش أو خشب أو ورق، نابضة بالحياة.
الباشا لم يكن نبتا شيطانيا.. كان ابن مرحلة وعصر ظهر فيه الأمير يوسف كمال مؤسس كلية الفنون الجميلة، ورئيس جامعة القاهرة، الذى أسهم بثروته الكبيرة فى تنمية القرى فى الصعيد، وبعد وصول «الضباط الأحرار» فى يوليو ١٩٥٢ أعاد إلى مصر مجمل ممتلكاته فى الخارج، وسدّد ثمن ماكينات زراعية اشتراها من أوروبا لأرضه التى كانت مصادرة. باشوات من زمن لم يكن الفن فيه منبوذا أو مجرد أداة ديكور.. كما هو الآن.
والقضية ليست مجرد معلومات عن الفن وأسماء الفنانين أو حتى امتلاك لوحات غالية، ولكنها روح مفقودة الآن، تتسع لترى أوسع من احتياجات وغرائز اللحظة الراهنة، روح متسعة... تستطيع أن تحتفى بقدرات البشر على الإبداع والتأمل والتفكير. والفقر هنا ليس مبررا لغياب هذه الروح وقت السرقة، واستمرار غيابها حتى الآن رغم الثورة وأحلام التغيير.. لكن هناك عناصر متعددة تكاتفت من أجل أن تعتم الروح لدرجة انحياز ساحق للقبح. كل الفنانين فقراء، وحياتهم بائسة، لكنهم أضافوا للعالم هواءً يجعل العالم أكثر رحابة، ورقيا، وأقل انغلاقا وتطرفا.
هكذا فإن الأرواح المحرومة من الموسيقى والرسم والرقص وممنوعة من السفر فى دروب الفن، أرواح فقيرة بائسة، يمكنها التحول إلى قطيع من التعساء حتى لو ملكوا ثروات الأرض.
هكذا فإن محمد محمود خليل من فصيلة انقرضت، بعدما سيطر عقل التتار الهمجى، العشوائى، ليغلق منافذ الهواء المفتوح.
اللصوص كما بدوا فى قصة سرقة «زهرة الخشخاش».. هم الظرفاء الوحيدين، اختاروا توقيتا غريبا لسرقة لوحة فان جوخ الشهيرة فى عز الظهر، حسب التعبير المصرى، الذى يشير إلى أنها لم تكن سرقة معتادة، تتم فى سترة الليل، وعتمته، ولكن فى وضح النور الساطع، وتحت أعين لم يرهقها بعد تسلل النوم.
لص محترف، قطع اللوحة بآلة حادة، وترك الإطار معلقًا على جدران قصر محمد محمود خليل باشا، عاشق الفنون، وأشهر جامع لوحات فى عصره. «زهرة الخشخاش» اختفت فى منتصف السبعينيات، وعادت بشكل غامض، والبعض ما زال متأكدا أن النسخة العائدة مزورة، وأن الأصلية ما زالت لدى سارقها الأول.
العبث اكتمل فى لحظة وصول النائب العام إلى المتحف، وانهيار تمثال كيوبيد الموضوع فى المدخل، التمثال تحطم إلى قطعتين «حزنا على اللوحة»، كما سخر المتابعون لتسلسل قصة «زهرة الخشخاش». السخرية عمومية، لا تخص فقط عشاق التصوير، ولا الفن عموما، ولا حتى قطاعات المثقفين أو المهتمين بالشأن العام، والمتصيدين لأخطاء الحكومة، الاهتمام باللوحة يعود بشكل كبير إلى انتشار معلومة عن قيمتها المالية التى تصل إلى ٥٠ مليون دولار... كأن المال هو كل ما نشعر بقيمته فى هذه الحياة.
اللص الطريف ما زال يستمتع حتى الآن بكل الروايات المتضاربة، وغالبا لن تتيقظ الروح الوطنية عنده، كما حدث فى فيلم «حرامية فى تايلاند»، ويعيد اللوحة بعد بيعها... إنه سيبيعها إلى من يعرف قيمتها أو على الأقل ثمنها... وهو فاز بلذة المغامرة.. مغامرة سرقة غارقين فى بركة تتسع كل يوم.
(من حكايات القاهرة).
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>