ربما يلاحظ القارئ المواظب على هذه الزاوية (أعانه الله) أن عبد الله كاتبها هجر من زمن طال قليلاً الكتابة فى الشأن الفلسطينى وتطورات الصراع العربى الصهيونى برمته، والحال أننى شخصيًّا لاحظت مؤخرًا وبمزيج من الدهشة والحيرة ظاهرة إحجامى وإعراضى شبه الغريزى عن تناول هذا الموضوع الخطير والأكثر محورية والأفدح تأثيرًا فى واقع ومستقبل وطننا وأُمتنا.
فأما مصدر الدهشة التى أمسكت بتلابيبى وأنا أصارح نفسى بهذه الملاحظة فيعود إلى حقيقة يكفى للتدليل عليها أن يعرف القارئ الكريم أن العبد لله تذوَّق فى حياته طعم السياحة اللذيذ فى سجون هذا الوطن أربع مرات (غير الفرط)، ثلاث منها كان بسبب آراء ومواقف وأنشطة لها علاقة بالقضية التى تحمل عنوان فلسطين والصراع مع العدو الصهيونى، ما يعنى أن هذه القضية تحتل موقعًا متفردًا فى منظومة أفكارى وعقائدى واهتماماتى.
لقد قلت حالاً إن ظاهرة الإعراض وهجر الكتابة فى الموضوع الفلسطينى وتجاهل تطوراته الصاخبة والمحزنة، خصوصًا فى القدس، بدا لى «شبه غريزى»، والواقع أننى استخدمت هذا التعبير عامدًا، لأننى هكذا وجدت حالتى عندما تأمَّلت فى الأمر، إذ اكتشفت أن عدم اقترابى من الموضوع لم يكن بوعى وقصد بقدر ما كان سلوكًا تلقائيًّا تتحكَّم فيه غريزة النفور والابتعاد عن المعاناة والمكابدة وتجنُّب كل ما من شأنه تهييج المواجع واجتلاب الأذى والمتاعب!!
هل استغربت كلمتى الأذى والمتاعب؟! إذن دعنى أوضح وأبُح لك بما توصَّلت إليه من التجربة الذاتية العجيبة التى خضتها، صباح أمس، وأنا أحتشد وأتأهب لكتابة هذه السطور، فقد بدأت وأمسكت بالقلم بينما قرارى ونيّتى متجهان نحو التعليق على تصاعد جرائم العدو وعربداته وارتكاباته الحالية المتجاوزة لكل الحدود سواء فى القدس (أساسًا) أو ما تبقى من أرض فلسطين المسروقة، وكذلك ردود الفعل المشينة والمثيرة للعار التى قابلت بها العاهات الجاثمة على كراسى الحكم العربية هذه الجرائم والعربدات، غير أنه سرعان ما تبين لى، ليس فقط أن الكلام وأى هجاء سيكون معادًا ومكررًا إلى درجة الابتذال والملل، وإنما الأهم كان اكتشافى أن اللغة نفسها تبدو وكأنها ماتت أو على الأقل أصابها شلل رباعى، بحيث أضحى مستحيلا فعلاً التعبير والتعليق على هذا الموضوع بالذات عن طريق التوسُّل بمفردات وكلمات محتشمة ومهذبة تليق بالنشر فى صحيفة سيارة ولا توقع مستخدمها تحت طائلة القانون، وترسانة هائلة من اعتبارات اللياقة المنافقة وحسن الأدب والوقار الكاذبين!
لقد وجدتنى والله محشورًا بين خيارين لا ثالث لهما، الأول أن أخون القضية وأخالف ضميرى وإحساسى الملتهب بما يجرى وأؤثر السلامة فأكتفى باللغة الباردة المائعة الآمنة، والخيار الثانى أن أتحامق وأتهوَّر وأقول ما قاله مظفر النواب شاعر العروبة الملعون والمطرود من جنة عروش حكام الأُمة:
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟
ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها
وتنافختم شرفًا..
وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض
فما أشرفكم..
أولاد (الكذا) هل تسكت مغتصَبة؟!
أولاد (الكذا)..
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
أن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرَّك دكة غسل الموتى.. أما أنتم
فلا تهتز لكم قصبة...
(ملحوظة: جَبُنْتُ وخِفْتُ مِن ذِكر النص الأصلى لكلمة (الكذا) مع أنه نعت من مفردات اللغة العربية النقية).
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>