الشعر المجنون..
لم تكن قصات الشعر فى السبعينيات مجرد موضة عابرة لكنها إعلان تمرد على كل شىء. كل شىء فعلا. عادل السيوى أهم فنانى التصوير «PAINTING».. الآن عمره 62 سنة.. وكان أحد الذين أطلقوا الشعر المجنون.. الهائج الممتد كأنه غطاء ضد تعليمات هابطة من السماء.. أو شجرة تنمو بلا كوابح.. أو كأنها قنبلة انفجرت من الرأس. هذه صور الجامعة التى اقترب عادل السيوى من أبوابها فى لحظة نادرة. تقريبا فى 1970 حين وصلت إلى مصر أصداء ثورة 1968 فى أوروبا وتزامنت معها حركة طلابية رافضة هزيمة يونيو 1967.
لحظات غيرت نظرة الإنسان إلى نفسه ومكانه.. وعلاقته بكل شىء من السياسة إلى العائلة وحتى الحب واللذة المحرمة، لحظات أسئلة حول معنى الأخلاق والهوية والتحقق.
وقتها كان التفاؤل سائدا إلى حد كبير بأن العلم سوف يقود الإنسانية إلى حالة من الرفاهية والتقدم لا حدود لها. فى نفس الوقت انتشر الرعب من مغامرات أمريكا فى فيتنام وتداعيات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقى والغربى. شبح الموت وانتهاء البشرية بمجرد الضغط على زر بالصدفة (كما كان يمكن أن يحدث فى أزمة خليج الخنازير). ولم يكن مقبولا أن يحكم العالم نفس الحكام أو عقليات السلطة التى أدت إلى مأساة الحرب العالمية وراح ضحيتها 80 مليونا وتشرد 20 مليونا غيرهم. كانت «ثورة الشباب» مندفعة إلى تحرير الحواس لتحرر العقل من حمولاته الثقيلة. لحظة انفجار يحكى عنها: «.. كان عندنا طاقة كبيرة جدا.. لم يكن عندنا الحكمة أو القدرة على تنظيم أنفسنا.. فقط طاقة.. العالم كله كان فى حالة غريبة.. أفكار كثيرة تتخلق وتتكون.. هذه هى اللحظة التى يتكون فيها أول جيل عالمى.. أول مرة يتكون جيل له ملامح محددة ومختلفة فى كل أنحاء العالم فى نفس الوقت.. عندما أقابل أحدا من أبناء جيلى هزته هذه اللحظة الخاصة.. وفى أى مكان فى العالم نتكلم تقريبا عن نفس الأشياء.. نفس المراجع.. نفس الأحداث.. الموسيقى والكتاب.. والتعليقات.. كنت محظوظا بأننى من هذا الجيل.. جيل حساسيته ليست قومية فقط.. حساسيته واسعة.. عالمية.. مشغول بأشياء أبعد من حدوده الضيقة». هذه نظرة مختلفة للحدث الذى يختصر فى مصر على أنه: مظاهرات طلبة (1972) ضد رئيس الجمهورية (السادات).. لكنها كانت لحظة من لحظات الاكتشاف ومقاومة خطوط السير الطبيعية فى اختيارات السيوى: طالب متفوق فى كلية الطب. مشروع مكتمل له جاذبية اجتماعية، وكان من المفروض أن تكون شخصية. لكن 1972 أبعدته أكثر عن «الأحلام الأليفة».. لم يكن انتقالا سهلا.. أو تمردا عجولا مبنيا على فورة حماس مؤقت.. إنها مقاومة هادئة. لا يجيد عادل التعامل مع الخطابات المغلقة (السياسى أو الدينى).. وفى 1972 انحاز بشكل كبير إلى «الوجه الثقافى» لحركة الطلاب.. كما يبدو من حكايته: «اهتمامى كان أكبر بالشعر والكتابة والمسرح.. كان فى كل كلية نادى سينما.. يعرض أفلاما لا نراها فى الدور العادية.. كان جوا مثل حلة البخار.. طاقة تصل إليك من كل جانب.. أفكار.. ومناقشات.. أساتذة يحاورون الطلاب.. تسمع أشياء من كل مجال.. أتذكر جيدا الناقد الكبير عبد المحسن طه بدر وهو يقرأ شعرا شعبيا.. عن ليلة شنق زهران.. أتذكره جيدا.. وهو يقول: يوم شنق زهران.. كانت صعبة وقفاته.. أمه تلالى فوق السطح وأخواته».. وكان يقارنها بقصيدة صلاح عبد الصبور عن شنق زهران.. هناك أيضا اكتشاف مهم وهو الخروج من «الإطار الطبقى للصداقة» أى أصبحت لعادل صداقات من طبقة غير الطبقة التى عرفها فى المنيل.. «تجمعنا أفكار واحدة.. كذلك عرفنا التعامل المختلف مع المرأة.. كنا نتعامل بندية كاملة مع زميلاتنا.. لا وجود لفكرة السيطرة أو الكلام المتخلف عن البنت..». وقبل أن أقول له: هذا هو الوجه الجميل للحركة.. أين وجهها القبيح.. وماذا تعلمت منه؟ بادرنى هو بتحليله للصورة: «هذه الحركة تنازعها اتجاهان كبيران.. اتجاه بأن نكون جزءا من حركة شباب فى العالم.. جيل يرفض أن يقرر المستقبل نفس الجيل المسؤول عن الحرب العالمية الثانية.. صوت جيل الرفض ظل يصعد حتى انفجر فى السبعينيات.. وعندما قابلت الكاتب والمفكر المعروف طارق على فى إسطنبول كأنى قابلت نفسى.. هو باكستانى وقاد الحركة الطلابية فى إنجلترا.. من أول لحظة.. اكتشفنا فورا الجزء المشترك بيننا... يتحدث عادل عن نزعة مفتوحة على الأفكار والحساسيات الجديدة.. وفى المقابل نزعة أخرى «محلية.. صراعية.. قومجية..».. الحركة انتهت بالنسبة إلى البعض فى هذا الجزء الضيق.. بـ«الخناقة مع السلطة، وتحالفاتها، ومشاريعها..».. والبعض الآخر انفتحت أمامهم الدنيا.
من نص طويل عن عادل السيوى بعنوان «الفيل والفراشة» ينشر قريبًا.