.. السفاحون فى عصابة «داعش» ليسوا وحدهم الذين اتخذوا تلك الخرقة السوداء الموغلة فى القبح والبؤس والرثاثة راية لهم، وإنما كل العصابات المماثلة ترفع الخرقة نفسها، ويرتكب المنخرطون فيها أحط وأبشع الجرائم، بينما هذه الراية تخفق فوق رؤوسهم التى عشش فيها عفن ووسخ مقزز، اختلط بتشوهات روحية وأخلاقية نادرة جمدت قلوبهم الحجرية، فنشلوا بمنتهى الخفة والوقاحة، الدين الحنيف وتجرؤوا عليه، ومن ثم ألصقوا به كل هذا الفيض من الجنون الإجرامى.
هذه الخرقة المقرفة التى هى راية السفاحين، عبارة عن تكوين بصرى بدائى جدا يتألف من جزءين، الأول هو كلمات مكتوبة بخط ردىء (حتى إنك تعتقد أن كاتبها طفل أعجمى) وبلون أبيض باهت، موزعة على كتلتين أولاهما مصلوبة أعلى مساحة الخرقة المستطيلة، ومنطوقها هو نص الشهادة بأن «لا إله إلا الله»، أما الكتلة الثانية فتراها ملطوعة فى منتصف المستطيل الأسود تقريبا، على شكل دائرة بيضاء منبعجة ومرسومة بغير عناية (قد تبدو أحيانا بيضاوية) وفى قلبها جرى تفريغ كلمات ثلاث، إذا قرأها الناظر إليها من أعلى لأسفل (كعادة قراء العربية) فإن نصها يكون «الله رسول محمد»!!
الجزء الثانى (أو الرئيسى) من التكوين البصرى لهذه الراية، هو تلك الخلفية الشاسعة من السواد الفاحم الذى يحمل قوة هجومية ساحقة وصادمة، تجعله يستقر فى ذهن المشاهد، وقد اختزل واختصر فى عمقه الغطيس كل تفاصيل الراية الأخرى، فلا يتذكر المرء منها إلا سوداويتها الموحشة الكئيبة.
ولو بدأت بالكلمات المكتوبة على صفحة الخرقة السوداء، فإنها تكاد تنطق، ليس فقط بالعوز والبؤس العقلى للسفاحين وفقرهم الملامس حدود العدم فى التربية والتعليم، وإنما أيضا تشى بوضوح بالمدى البعيد الذى ذهب إليه المجرمون هؤلاء فى فضاء الوقاحة والجهالة، فضلا عن إشارتها البليغة إلى التنطع البذىء والجرأة الرهيبة على دين الله، وهنا تكفى الإشارة إلى ملاحظتين اثنتين، أولاهما هذا الترتيب العكسى المقلوب لعبارة «محمد رسول الله»، وتحويلها إلى أن «الله» جل جلاله هو «رسول محمد» صلى الله عليه وسلم!!
والملاحظة الثانية هى تعمد استعمال الخط الردىء الهابط فى القبح لمستوى الأذى البصرى، وهو بدوره دليل رمزى فاقع ومباشر يأخذ مكانه ضمن زحام الأدلة الأخرى على حجم الجلافة والوضاعة والهمجية المعجونة بكراهية وعداء غريزيين للبهاء والجمال عموما، ولكل ما يمتّ إلى الرقى والتحضر الإنسانى بأى صلة.
أما الجزء الثانى (الذى هو الأكبر والأهم) فى تكوين راية السفاحين، والمتمثل فى طغيان اللون الأسود وهيمنته الكاسحة عليها، فيبدو أشد تعبيرا عن حالة هؤلاء ومقدار بشاعة أهدافهم ومراميهم.. إذ لا يوجد فى الحديقة اللونية للكون لون آخر ينافس السواد أو حتى يقترب منه فى القدرة على الإيحاء بمعانٍ سلبية مفزعة لا أول لها ولا آخر.. إنه، مثلا، عنوان الظلام الدامس الثقيل، كما أنه أظهر سمات الليل الطويل الذى ينتظر ضوء النهار بفارغ الصبر.
إن هذا السواد تعبير فادح القوة عن التأخر والتخلف والغلظة والظلم والسعى للخراب والتدمير وسوء المصير.. إنه حقا لون يليق بسفاحين تفوقوا فى الإجرام والقتل والوحشية، حتى لم يعد فى قاموس اللغة ألفاظ ومفردات تستطيع وصفهم.