يحول الشاعر والكاتب المصري فتحي عبد السميع في كتابه "الجميلة والمقدس" المعالجات النقدية التي تناول فيها عددا من الكتب إلى معرض للآراء والنظريات الجمالية التي يقدمها بشغف وعمق واثر في نفس القارىء.
ويرى المؤلف أن الفنون جميعها ولدت من رحم الطقوس والأساطير ولم تنفصل مسيرتها عن فكرة المقدس إلا في العصر الحالي الذي بات يفرض تحديا جديدا في ظل الشكوى من ماديته "المتوحشة" مما يدفع المبدعين إلى محاولة استعادة الحكمة المفقودة وتحقيق التناغم بين الروح والعقل.
كتاب فتحي عبد السمع صدر عن دار الهلال في القاهرة في نطاق سلسلة "كتاب الهلال" وجاء في 270 صفحة صغيرة القطع مكثفة في حروفها واسطرها.
فتحي عبد السميع في المقدمة الغنية والمعمقة لكتابه والحافلة بالنظريات يقول "الجميلة هي الكتابة الابداعية سواء اكانت قصيدة ام قصة قصيرة ام رواية ام مسرحية..."
ثم يقول مفترضا أن الأدب يعتبر عند البعض منفصلا عن الفنون الجميلة وهو رأي ليس مدار اجماع عند النقاد والباحثين الجماليين "ولا ادري سر إنفصال الأدب عن مصطلح الفنون الجميلة الذي يتم تداوله ليعبر عن فنون مثل الموسيقى والرسم والنحت، فمن الشائع استخدام عبارة مثل (الأدب والفنون الجميلة).
"والحقيقة أن الجمال هو أهم ما يميز الكتابة الأدبية فلا معنى للكتابة بوصفها أدبا إن لم تكن جميلة في المقام الأول. فجمال الكتابة هو ما يحدد هويتها. فقصيدة جميلة عن عصفور أو علبة فارغة أهم من قصيدة سيئة عن رمز عظيم أو قيمة إنسانية كبرى. وإذا كانت الكتابة عندما تتجرد من الجمال تصبح كيانا تافها يسهل علينا طرده من جنة الابداع بلا اسف مهما كانت القيمة المعرفة التي تحملها تلك الكتابة فإن الكتابة التي تحوي قدرا عاليا من الجمال لا يمكن أن ننبذها حتى لو اختلفنا مع رسالتها المعرفية...
"وإذا كانت الكتابة الابداعية تحمل قيمة معرفية يسهل التدليل عليها فانها لا تحلق في صدورنا ولا تلمس اعماقنا بسبب تلك القيمة وحدها ونحن عندما نقبل على الكتابة الابداعية لا نتوجه إليها بسبب ذلك البعد المعرفي والاولى في تلك الحالة أن نقرأ مقالا أو دراسة عن الموضوع..."
أضاف يقول إن الكتابة الابداعية "لا تقدم لنا فكرة بل فكرة جمال روح إنسانية. ومن هنا غالبا ما نجد دراسة فكرية تتطابق مع أخرى تقريبا. ومن الشائع أن نجدها تنقل مقاطع من دراسات سابقة بالنص. بل وهناك دراسات لا حصر لها تعتمد على القص واللصق من دون مجهود آخر ونحن نقدر مثل هذه الدراسات عندما تقدم لنا احاطة شافية بموضوع ما..."
وانتقل إلى الحديث عن الفرق بين ذلك وبين الكتابة الابداعية فقال "اما في الكتابة الابداعية فكل مبدع يسبغ على الفكرة شيئا من روحه وكل إنسان في الحقيقة يمتلك هذا الكيان المعقد والمعجز والمبدع والمدهش دائما والذي يظل لغزا لا تنتهي اسراره ولا يخمد توهجه..."
وانتقل إلى القول ان الكتابة الابداعية "تستهدف في الحقيقة هذا الشرخ الناتج عن تركيز الإنسان على الجانب المادي للحياة واهماله للجانب الروحي وامكانياته الداخلية الأخرى..."
وفي نوستالجيا ((حنين)) إلى أزمنة مضت يذكرنا بالحنين الرومانتيكي قال إن للكتابة أهدافا ومن ضمن ما تهدف إليه "تحرير الإنسان داخليا والتصدي لهيمنة العلم المطلقة وانفراده وحده بكل اهتمامنا. ورغم النتائج المذهلة للعلم والتي افادت البشرية افادات كثيرة وكبيرة فإن الإنسان مع ذلك يدفع ثمنا باهظا لانفراد العلم وحده بكل اهتمامنا...
"والذي حولنا إلى كائنات استهلاكية هشة تفتقد هذا التناغم والانسجام والتوازن والبنيان الداخلي القوي الذي كان سائدا في العصور القديمة التي لم تكن تحيا بشكل احادي الجانب وعرفت نوعا من السعادة والسلام العميق في ظل امكانياتها الفقيرة على المستوى الخارجي قياسا بامكانياتنا شديدة الثراء والتي لا تسد الفجوة الهائلة التي باتت تفصلنا عن السعادة او الحياة المطمئنة المتناغمة والمنسجمة مع كينونتنا الإنسانية."
وفي كلام يشبه ما ورد في نظربة "التطهير" عند ارسطو انتقل فتحي عبد السميع إلى الحديث عن تطهير او خلاص معين يقدمه لنا الفن فقال "وفي ظل هذا الوضع الإنساني المعاصر بماديته المتوحشة يهبّ الأدباء لشدنا من قيودنا وتحريرنا من قبضة الشرك المادي الكبير محاولين استعادة الحكمة المفقودة وتحقيق التناغم بين الروح والعقل وهم بذلك يدخلون في الرحاب الواسع للمقدس." ولم يسهب في قوله بالفصل بين الروح والعقل او يشرح ذلك.
وفي شبه نزعة صوفية قال "ونحن في رحاب موضوع المقدس نجد انفسنا في أفضل وضع ممكن لتوحيد الشكل بالمضمون فالمقدس في ذاته حالة جمالية."
وقال "ونحن هنا لا نتناول موضوع المقدس بقدر ما نتناول علاقة الكتابة الابداعية بالمقدس وتلك العلاقة ليست ميكانيكية جامدة بل تخضع لظروف كل كاتب وريما لظروف كل نص...
"ان تجربة الكتابة في حد ذاتها تتقاطع مع تجربة المقدس وتتداخل معها. ففي لحظة الكتابة ينقسم العالم إلى عالمين مختلفين ومتمازجين في الوقت نفسه، عالم الواقع وعالم الخيال، العالم الدنيوي الذي يغرق الكاتب في تفاصيله خارج الكتابة والعالم الآخر الذي يدخله المبدع اثناء الكتابة ويدخلنا إليه كقراء لاحقا."
وقال "إن ارتباط الكتابة بالمقدس هو ارتباط فرع بالاصل فكل الفنون الجميلة نبتت من رحم العلاقة بين الإنسان والمقدس..."
الكتب التي تناولها فتحي عبدالسميع بالدراسة هي كتاب "المحو" لأحمد فؤاد جويلي ورواية "رقص أفريقي" لعصام راسم فهمي وديوان "واحد يمشي بلا أسطورة" للشاعر اشرف البولاقي ورواية "بغل المجلى" لعبد الجواد خفاجي وديوان "قبّلت وردتها" للشاعر محمود الازهري والمحموعة القصصية "العودة إلى جوبال" لسعيد رفيع وديوان "موسيقا للبراح" للشاعر بهاء الدين رمضان وقصة "يوميات في حياةشخص عابر" لأحمد حسن الدقر.