أتذكر أنه قبل نحو 17 عاما منحته الدولة المصرية الجنسية، يومها كتبت أن وديع الصافى لا يحتاج إلى جواز سفر مصرى لأنه منذ نصف قرن سكن قلوب المصريين دون «فيزا».
لم يعرف العالم العربى مطربا استمر فى الميدان ما يربو على 75 عامًا إلا وديع. أم كلثوم غنَّت وهى طفلة ورحلت فى الـ75 من عمرها، وعبد الوهاب رحل بعد أن وصل إلى التسعين، صحيح أنه استمر فى التلحين حتى اللحظة الأخيرة لكنه توقف عن الغناء قبلها بخمسة عشر عامًا، لا أم كلثوم ولا عبد الوهاب استطاع أى منهما أن يغنّى 70 عامًا متواصلة، ولكن وديع الصافى فعلها وكان دائمًا قادرًا على إنعاش ليالينا وأيامنا بصوته الصافى!
أن تصل إلى القمة وتظل كل هذه السنوات متربعا عليها فهذه هى المعادلة الصعبة وهذا هو المستحيل الذى استطاع أن ينجزه وديع الصافى، صحيح أنه فى السنوات الأخيرة لم يعد قادرًا على الحركة بسهولة خارج حدود لبنان ولكنه ينتقل بالفضائيات إلى ربوع الوطن العربى!
الفنان والإنسان وديع الصافى وجهان لعملة واحدة، بداخل هذا الفنان الكبير روح التسامح، وقلب الطفل لم يعرف أبدا تجاعيد السنين. وأروى لكم هذه الواقعة التى حدثت قبل نحو خمسة أعوام.. كان أحد المدعين قد انتحل شخصية ابنه وبدأ يتصل بالأثرياء يطلب المساعدة بحجة أن والده وديع الصافى يعالَج فى المستشفى، وصدَّق هذه الحيلة عدد منهم ثم وكالعادة فإن أى كذبة مهما طال بها الأمد يتم اكتشافها، وعندما علم وديع بذلك طلب من قوات الشرطة التدخل وتم نصب كمين وإلقاء القبض على المجرم، فما الذى فعله وديع؟ ذهب إلى قسم الشرطة ثم التقى بالجانى وفى أثناء التحقيق معه أكد النصاب أن الذى دفعه إلى ذلك هو حاجته إلى المال وطلب من وديع العفو عنه فغنَّى له وديع «الله يرضى عليك يا ابنى.. ظهرى انكسر والهم دوّبنى».. وبكى الشاب تأثرًا ومنحه وديع ما تيسر من أمواله القليلة!
اسمه الحقيقى وديع فرنسيس أما «الصافى» فلأن صوته اشتهر بالصفاء وهكذا ارتبط به هذا التشبيه الذى صار بعد ذلك اسمًا له، فلقد اختبره أعضاء لجنة الاستماع فى الإذاعة اللبنانية وهو لا يزال شابًّا صغيرًا فى الثلاثينيات من القرن الماضى وبعد أن بهرهم بغناء كل الأطياف الفنية منحوه لقلب «الصافى».. فى لبنان صار وديع العلامة الغنائية الأبرز مثل فيروز والرحبانية.. رمز لبنان هو العلم المرصَّع بشجرة الأرز، لكن الفنانين الكبار يصنعون اسم البلد وعَلَمه ورمزه!
من الأغانى التى لا تُنسى لوديع «دار يا دار» التى لحَّنها له بليغ حمدى بكلمات حسين السيد، وأداها وديع بحالة من الإحساس والألق إلى درجة أن بليغ كان يبكى وهو يستمع إليها بصوت وديع كأنه يعزف بصوته على أوتار قلوبنا!
من أشهر أغنياته التى أعاد تقديمها «الأطلال» لأم كلثوم سوف تشعر أن الأغنية مطعَّمة بنبض «الصافى» بعد أن كانت لا تحمل سوى النبض «الكلثومى». كما غنَّى رائعة نجاة «أيظن» شعر نزار قبانى وموسيقى محمد عبد الوهاب، ومن المفارقات أن وديع الصافى قام بتغيير بضع كلمات لتتناسب معه كرجل حيث إن نزار يقول «حتى فساتينى التى أهملتها» بينما وديع الصافى عندما غناها أحالها إلى «حتى سراويلى التى أهملتها» إلا أن الناس عندما قال «سراويلى» بدأت تنتبه إلى أن الأصل هو «فساتينى» وضحكوا وبادلهم وديع الضحك «الصافى». لا تسأل «راحوا فين حبايب الدار»؟ لأنهم لا يزالون يسكنون قلوبنا!
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>