كان من المفترض أن نُكمل معًا أفلام العيد الثمانية بعد أن آليت على نفسى بأن أرصدها لكم، ولم يتبق فى الجَعبة سوى «وش سجون» و«المواطن بُرص»، لولا هذا البيان الحنجورى الذى أصدره رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون عصام الأمير مطالبا القنوات الفضائية بمقاطعة الدراما التركية، لأنه يعود بنا إلى زمن ما قبل قانون الفضائيات، الذى يسمح لك كمتفرج بالاختيار الحُر، ولا أحد من حقه أن ينتقى بدلا منك.
ولم تكن المرة الأولى، قبل نحو عام قاطعت الفضائيات المصرية الحكومية والخاصة الدراما التركية لعدة أشهر، ثم عادت تعرضها بناءً على طلب الجماهير، الذين كانوا يتابعونها عبر الفضائيات العربية، ورأينا اتحاد كُتاب الدراما العرب يصدر بيانا ناريا بالمقاطعة بحجة المحافظة على هُويتنا، وجبهة الدفاع عن حرية الإبداع تدعو الجميع إلى المقاطعة لأى مُنتج عليه العلامة التركية، ونسينا أن تركيا ليست عدونا، لكن أردوغان هو الذى يُصدر تلك البيانات الساذجة، وتفلت منه تعليقات بها مراهقة سياسية، علينا أن نواجهها سياسيًّا، لكن الشعب التركى الذى قدم للبشرية دُررا فى الأدب والشعر والفيلم والمسلسل واللوحة، ليس له يد فى كل ما يجرى من تجاوزات أردوغانية.
تابعنا مزايدات فى أسلوب المقاطعة، قبل أقل من عام مثلا اعتذرت الراقصة نجوى فؤاد عن عدم السفر إلى إسبانيا لتكريمها فى أحد مهرجانات الرقص الشرقى، بعد أن علمت أن هناك نية لوجود راقصات من تركيا، وذلك تماشيا مع التوجه المصرى، الذى تبنته وقتها النقابات الفنية بالمقاطعة لكل ما هو تركى من فن ورقص وأكل حتى المشروب المصرى المفضل، وهو القهوة التركى يفكر البعض فى إلزام المقاهى بالامتناع عن تقديمه، كما أن عددا من الجمعيات النسائية طالبت ربات البيوت بعدم الاقتراب من المأكولات ذات الأصول التركية مثل الكبيبة والشركسية والشكشوكة وبابا غنوج والجبنة الأسطنبولى!
سلاح المقاطعة بات يُشهر هذه الأيام بجنون، بل وصارت تلاحق نظرات واتهامات وتلميحات لكل من لا يرفع هذا السلاح، وكأنه يرتكب خيانة وطنية، الشعوب ينبغى أن تظل بعيدة تماما عن تلك الصراعات، التى بطبعها ليست ثابتة وقابلة للتغيير فى أى لحظة. سبق وأن تعرض فريد الأطرش للمقاطعة عندما قدم أوبريت «بساط الريح» عام 1950 فى فيلم «آخر كدبة»، وكان يشدو للوحدة العربية فغنى «بساط الريح يا أبو الجناحين مراكش فين وتونس فين»، ولا أدرى كيف لم يمر البساط على الجزائر اعتبروها مقصودة، ولهذا لم يغفروها له هناك، ولم يتم الصلح إلا حين قدم بعد 15 عامًا أنشودة «المارد العربى»، وغنى فيها مقطعا لبلد المليون ونصف المليون شهيد، كان هذا ممكنا قبل الانتشار الفضائى، الآن من المستحيل أن تمنع فنانا أو عملا فنيا من التداول.
هل نسينا ما حدث قبل أربع سنوات، وتلك المعركة المفتعلة بسبب مباراة الكرة بين مصر والجزائر، التى أقيمت فى أم درمان، وما تلاها مع الأسف من تداعيات مثل أن يصدر قرار فى مصر بمنع أغانى وردة على اعتبار أنها جزائرية الأصل، وأن يلغى تكريم المخرج الجزائرى أحمد راشدى فى مهرجان القاهرة السينمائى، وأن يعيد بعض النجوم المصريين الجوائز التى حصلوا عليها من الجزائر إلى السفارة احتجاجًا.
المقاطعة الثقافية والاقتصادية والسياسية والكُروية هى فقط مع عدونا الاستراتيجى إسرائيل، نعم لا يمكن أن يشارك فنان عربى فى مهرجان إسرائيلى، ولا تتم دعوة فنان إسرائيلى إلى أى تظاهرة عربية.
هذا هو المبدأ لأننا نتعامل مع عدو دائم اغتصب أراضينا، لكن تركيا ليست عدوًا استراتيجيًّا لمصر، ولا للدول العربية لنرفع فى وجهه سلاح المقاطعة، ويمنع المسلسل التركى من الوجود عبر الشاشات المصرية حكومية وخاصة، وننسى أن السلاح الوحيد الذى نمتلكه هو أن نصنع دراما جذابة مثل تلك التى رأيناها فى رمضان، وقتها لم يجد المتفرج أمامه متسعا من الوقت، لكى يطلّ على أى مسلسل آخر.
ما علاقة الغضب من تصريحات أردوغان بأن لا تصافح نجوى فؤاد راقصة تركية، وأن تخاصم الفتيات مهند، وأن تمتنع السيدات المصريات عن التطبيع مع «بابا غنوج»، وأن يتوقف الجارسون عن النداء الشهير «واحد قهوة تركى وصلحه»؟
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>