صباح الخير..
حسب أغلب وقائع التاريخ ودروسه فإن القتلة والإرهابيين يصعب، أو ربما مستحيل أن يتحولوا إلى ثوريين حقيقيين «قد يسرقون وينشلون ثورات»، غير أن الدروس نفسها تقطع بأن العكس ممكن، فقد حدث كثيرًا أن ثوريين صاروا مجرمين وإرهابيين وقتلة.
يعنى باختصار، يجوز أن يرتد شاب ثورى حمارًا، وينسخط ويغادر فطرته الإنسانية السليمة، ويصبح داعشيا أو إخوانيا «انظر حولك»، لكن الذى يبدأ فى عصابة «داعش» أو فى مغارة إخوان الشياطين يستحيل أو يندر جدا أن يتطور ويترقى ويتطهر وينقلب إنسانا ثوريا حقيقيا، أو حتى مجرد إنسان.
وهناك مسرحية كتبها المسرحى الفرنسى فكتوريان ساردو فى نهاية القرن التاسع عشر بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للثورة الفرنسية، شرح فيها كيف ينحط بعض الثوريين ويتحولون إلى إرهابيين. المسرحية زيَّنها مؤلفها باسم «ترميدور»، وهو اسم الشهر الحادى عشر «يقع بين شهرى يوليو وأغسطس» فى التقويم الذى اخترعه الثوار بديلا عن التقويم العادى البادئ من يوم ميلاد السيد المسيح.
المسرحية تدور أحداثها فى عز أيام الثورة، وتحديدًا فى المرحلة الدموية، التى أطلق عليها وصف «عصر الإرهاب الثورى»، الذى قاده المحامى المتطرف ماكسمليان روبسبير، وتبدأ مشاهدها بصديقين يجلسان على حافة النهر فى باريس، وبيد كل منهما صنارة يصطاد بها السمك، وبسرعة نعرف أن الأول هو مارسيل هوجون، الذى يحمل رتبة نقيب فى قوات المدفعية الموالية لروبسبير، وقد أتى إلى باريس فى مهمة تتعلق بعمله، لكنه فى الوقت نفسه يبحث عن خطيبته فابيان، أما الثانى فيدعى شارل لابوسيار، وهو يتبنى موقفا مناقضا تماما لموقف صديقه، إذ يناهض روبسبير ونظامه الإرهابى، ومع ذلك فقد استطاع الحصول على وظيفة فى إدارة المعتقلين، ومن خلالها يقوم سرًّا بإحراق وإغراق ملفات المطلوبين بغية إنقاذهم وإبعادهم عن خطر المحاكمات الثورية، التى تنتهى عادة بالإعدام على المقصلة.
وفى أثناء الحوار بين الصديقين اللذين يفترض أن كلاًّ منهما يقف على الطرف النقيض من الآخر، نكتشف أن هوجون ليس مرتاحًا تمامًا للحالة الدموية التى انتهت إليها الثورة، فهو يسر إلى صديقه بخيبة أمله مما آلت إليه الأوضاع، ويتساءل بحزن: أين هم أبطال الأمس؟ اليوم لا مكان على الساحة إلا للمقصلة ونشطائها فقط.
وبينما الصديقان يبثان بعضهما أسباب الحزن والهم، تمر من أمامهما مظاهرة نسائية صاخبة شعارها «أغرقوا واقتلوا الأرستقراطيين وأعداء الثورة»، وفى لحظة يكتشف هوجون أن الغوغاء المشاركين فى هذه التظاهرة إنما يطاردون فتاة بائسة مسكينة هى نفسها خطيبته المحبوبة فابيان! يهرع هوجون لنجدة حبيبته المتهمة «وقد اعترفت فعلا» بأنها من أعداء زعيمه وقائده الكبير روبسبير، لكنها تفاجئه بأنها تقابل لهفته عليها ببرود يثير استغرابه، ثم رويدًا رويدًا تستعيد حرارة حبها القديم له بعدما تبين لها أن هذا الحب أقوى من موقفها السياسى الذى يناقض موقف خطيبها.
تحكى فابيان لحبيبها أن رجلا من هؤلاء الذين ركبوا موجة التطرف الثورى هو المدعو هيرون، أصبح رئيسًا للبوليس الثورى فى المنطقة التى تقيم فيها، وأنه راح يستغل موقعه الخطير، وأخذ يراودها عن نفسها مهددًا إياها بأنها إن لم تستجب سيعتقلها، ويقدمها للمحاكم الثورية بتهمة أنها حاولت قتله «لأنه من الثوار».
هنا، لم يجد النقيب هوجون مَهرَبًا من أن يقرر فعل كل شىء لإنقاذ فابيان وبأى ثمن، متجاهلا حقيقة أن فابيان نظريا على الأقل تقف فى الصف المعادى للثوار، الذين ينتمى هو إليهم بمن فيهم هذا الـ«هيرون»، ويقترح على حبيبته أن يستغل صديقه لابوسيار، ويحاول أن يقنعه باستبدال ملف شخص آخر من ملفات المعتقلين بملف فابيان، غير أن هذه الأخيرة تنفر بشدة من هذا الاقتراح، وترفضه رفضًا قاطعًا، «لأن فى ذلك غشًّا شنيعًا، إذ سيؤدى إلى إعدام شخص برىء».. هكذا تقول.
وبينما اليأس والحزن ينهشان قلب هوجون فإنه يقترح على حبيبته أن تدعى أنها حامل بالكذب، لكى تتوقف إجراءات إعدامها، غير أنها ترفض هذا الاقتراح أيضا.
ثم تمضى الأحداث، ويتم فعلا تنفيذ حكم القتل فى الفتاة المسكينة، وتنتهى المسرحية بمشهد ينفجر فيه غضب ولوعة مارسيل هوجون، ولا يجد وسيلة للثأر من «الثوار الإرهابيين»، الذين كان يناصرهم، ومع ذلك قتلوا حبيبته، إلا أن يهتف علنًا فى الشوارع: «يسقط الثوار الجلادون القتلة»، وفورًا ينال عقابه، إذ يطلق «جنود الثورة» عليه النار، ويقتلونه فى التو واللحظة.
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>