بدأت أمس حكاية رواها الكاتب والفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر فى مسرحيته الرائعة «سجناء الطونا»، وتوقفت عند موضع من الحكاية المعقدة ظهر فيه جليا أن دوافع فيرنر لسجن نفسه طواعية لم تكن فقط التكفير عن ذنوب والده، خصوصا قيام هذا الأخير بمنح السلطات النازية قطعة أرض يمتلكها سرعان ما انتصب فوقها معتقل رهيب، وعندما حاول الابن تهريب واحد من السجناء فشلت المحاولة وانتهت بقتل الرجل أمام عينى فيرنر.
واليوم أكمل باقى حقائق الحكاية، وملخصها أن الأب أقنع جوهانا زوجة فيرنر أن تزور زوجها فى الحجرة التى جعلها زنزانته وتحاول الضغط عليه لكى يقابل أباه، ويعدها الأب بأنها لو أفلحت فسوف يحرر فيرنر ويعفيه من قسمه والعهد الذى تعهد به أن لا يغادر سجن قصر الطونا أبدا.
وإذ تنطلق جوهانا لتؤدى المهمة فإنها بدل أن تقنع فيرنر بما اتفقت عليه مع أبيه تقتنع هى بقضية زوجها وتزداد حبا له، بل وتحب العقارب التى يناجيها وكذلك سكان سقف الحجرة الذين يحادثهم دائما ويعتبرهم المحكمة التى يعرض عليها قضيته ويسمعهم مرافعاته دفاعا عن الإنسانية.
إذن فيرنر رفض عرض أبيه بأن يتحرر من سجنه الطوعى ويخرج إلى العالم الذى يضمن الأب فيه الأمان والإفلات من أى عقاب، وتظل الحركة الدرامية فى المسرحية تتصاعد وتضرب هنا وهناك، كاشفة عن طبقات من الحقائق المتناقضة والمتراكمة بعضها فوق بعض حتى نصل إلى المشهد الأخير، حيث يجتمع الأب والابن السجين معًا، وهنا نكتشف أن إصرار فيرنر على ألا يقابل أباه وهو فى محبسه الاختيارى ليس بسبب كل ما خمّنه القارئ أو المشاهد للمسرحية، وإنما السبب الحقيقى هو أن لا يستدرجه الأب فيعرف منه الجرائم والفظائع التى ارتكبها فيرنر وهو جندى فى الجيش.
هل ارتكب فيرنر جرائم حقا؟ نعم، هو يعترف أمام والده بأنه عندما شاهد المعتقل الهارب يقتله رجال الجستابو أمام عينيه ولم يستطع أن يفعل شيئا، أحس بعجز وضياع كبيرين دفعاه للهروب إلى الجيش، وكانت القسوة الشديدة التى تعامل بها وهو يحارب على الجبهة الروسية مع فلاحين مدنيين غلابة، تعويضا عن عجزه وإصرارا منه على تحمل المسؤولية عن الانحطاط الروحى والأخلاقى، التى كان يلصقها بالآخرين بمن فيهم أبوه، ويبرئ نفسه منها.
وفى لحظة يقرر الأب والابن أن يمارسا معًا ولأول مرة حريتهما كاملة.. حرية التصرف فى حياتهما التى أنفقاها فى العبث وارتكاب الخطايا والذنوب، فينتحران.
ينسدل الستار على مشهد النهاية بعدما يودع فيرنر زوجته وأخته تاركًا لهما جهاز التسجيل الذى يحوى مرافعات دفاعه عن الإنسانية وشرفها.. وتصعد الأخت للحجرة أو الزنزانة وقد اتخذت هى الأخرى قرارا بأن تسجن نفسها طواعية لكى يبقى قصر العائلة سجنا، على ضيقه هو المكان الوحيد الرحب والذى فيه متسع للتطهر من الذنوب والقبض على المعنى الحقيقى لحرية الإنسان..
كل عام وأنتم بخير.
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>