التعليم فى الدنيا كلها واحد من أهم وسائل الحفاظ وتمتين وحدة وتماسك نسيج المجتمع الوطنى، وإبقاء تنوعاته الطبيعية (طبقيًّا وثقافيًّا ودينيًّا، وخلافه) تحت مظلة الانسجام والتآلف الوجدانى والفكرى، لذلك فإن وحدانية النظام التعليمى الذى ينخرط فيه أبناء الشعب بمختلف طبقاتهم ومكوناتهم هو أمر بديهى وخارج أى جدال أو مناقشة ولا يمكن السماح بالتلاعب فيه.
غير أن هذه البديهية المستقرة فى دول ومجتمعات العالم المتقدمة والمتخلفة على السواء، جرى فى العقود الأربعة الأخيرة (سنوات الخراب الشامل) بهدلتها فى مصر كما لم يحدث فى أى بقعة أخرى على سطح كوكبنا، إذ أصبحنا الآن نباهى الأمم جميعًا بأننا ربما نكون البلد الوحيد الذى فتح باب الفوضى على مصراعيه، لكى تدخل منه أعداد لا تكاد تحصى أو تعد من النظم التعليمية المختلفة، بل والمتناقضة التى عصفت بقوة وقسوة بمبدأ وحدة النظام التعليمى الوطنى، وصار أبناء الشعب الواحد مشتتين وموزعين بين نظم ومناهج مختلفة لا يكاد يجمع بينها شىء، ومن ثَمَّ تحوَّل التعليم من سبب لاجتماع تنوعات المجتمع ولم شمل طبقاته وفئاته، إلى واحد من أقوى أسباب تفتيته وتشريد أهله ونقلهم واقعيًّا إلى جزر فكرية وعقلية ووجدانية منفصلة ومتباعدة تمامًا.
أتحدث عن النظام التعليمى لا عن مضمونه الذى بقى أغلبه المتاح لعموم الناس بائسًا بؤسًا شديدًا، ومع ذلك فإن نظام التعليم الحكومى العام الذى نشكو من سوء حالته لم يعد هو نفسه نظامًا واحدًا وإنما أصابه داء الانقسام، فأضحى نظامين على الأقل، بعدما تم اختراع واستحداث نظام يُقال عنه إنه «متميّز» موجه للشرائح الطبقية الأعلى من عامة الشعب، بينما جحافل أبناء الفقراء العاديين يتلقّون أدنى نظم وأنواع التعليم.
ثم حدّث ولا حرج عن فوضى إمبراطوريات ودكاكين وأكشاك التعليم الخاص الذى يتوزّع على عدد هائل من النُّظم (أو بالأحرى اللا نظم) التعليمية، وتلعب اللغات الأجنبية هنا دورًا مركزيًّا وربما وحيدًا، على أساس أنها الحجة المعتمدة والأكثر إبهارًا لتبرير وتسويغ التعدد وبيع وهم التعليم المتميز.
لكن الفوضى لا تتوقف عند هذا المستوى، وإنما هناك أيضًا كارثة نظم التعليم المستوردة بالكامل (نهجًا ومضمونًا) من الخارج، حيث بات نوع من الموضة هذه الأيام أن يرسل الأغنياء والشرائح العليا من المجتمع أولادهم إلى مدارس أجنبية تمامًا لا يُسمع فيها صوت ينطق بكلمة واحدة من لغة الوطن، وهذه المدارس بدورها متنوعة ومختلفة اختلافًا بيّنًا حسب بلد المنشأ المستوردة منه، فهناك مدارس تتبع المناهج الأمريكية أو الفرنسية أو البريطانية أو الألمانية.. إلخ.
وأخيرًا، هناك مأساة التعليم الدينى ما قبل الجامعى، الذى أحدث فى العقود الثلاثة الأخيرة شقا هائلا وخطيرا تجاوزت أضراره مجرد انتهاك مبدأ وحدة النظام التعليمى الوطنى، وفاضت مشكلاته حتى طالت أركان المجتمع وسكنت فى أحشائه.. فأما الضرر فإن معالمه تتجلى وتظهر بوضوح فى حقيقة أن هذا النوع من التعليم تضخَّم وتورَّم حتى بلغ مستوى وحجمًا غير معقولين، وانفلت تمامًا من وظيفته الأصلية، أى إعداد الكوادر البشرية اللازمة لإيفاء الاحتياجات الدعوية والدينية للمواطنين المسلمين، إذ قفز عدد المدارس والمعاهد الدينية الأزهرية (من رياض الأطفال حتى الثانويات) من بضع عشرة مدرسة ومعهدا فى نهاية سبعينيات القرن الماضى، إلى 9258 مدرسة حاليًّا تستقطب أكثر من 2 مليون ومئة ألف تلميذ، أغلبيتهم الساحقة شبّوا فى بيئات هى الأشد بؤسًا وحرمانًا (!!) وهنا بالضبط مكمن الخطر ومنبع الأذى الوطنى.. غير أننى أستأذنك عزيزى القارئ أن أتوقف الآن على وعد أن أستكمل غدًا بإذن الله.
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>