قُل عليه دقة قديمة، مش مهم، الأهم هو أننى أستمع يوميًّا فى الساعة الحادية عشرة صباحًا وعلى مدى نصف ساعة إلى فقرة المونولوجات التى تقدّمها إذاعة الأغانى، وأجد فيها فرصة لكى أتأمَّل هؤلاء المبدعين الكبار، أمثال إسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وعمر الجيزاوى وثريا حلمى وسعاد أحمد وأحمد غانم وسيد الملاح، وخلفهم كتيبة من الشعراء بحجم أبو السعود الإبيارى وفتحى قورة وأبو بثينة وابن الليل وحسيب غباشى، ولديك من الملحنين محمود الشريف وعزت الجاهلى وعلِى إسماعيل، أيضًا كل من ياسين وشكوكو شاركا فى تلحين بعض المونولوجات.
الذى تبقَّى أكثر هو سُمعة وشكوكو، وثريا حلمى كانت تُبالغ فى الأداء، وأحمد غانم مونولوجاته الاجتماعية افتقدت خفّة الدم، بينما سيد الملاح يضحكنى أكثر فى التقليد. مهنة المونولوجست صارت تنتمى إلى الزمن القديم، ومحمود عزب هو آخرهم، ولكنه انتقل إلى سماء أخرى لكى يواصل البقاء على قيد الحياة الفنية من خلال أدائه فى عدد من البرامج الناجحة أقرب إلى روح «الإسكتش»، بينما فيصل خورشيد وهو ما عاناه أيضًا عادل الفار، لم يستطيعا البقاء طويلًا لأنهما دارا فى دائرة مفرغة.
الدراما ابتعدت حتى عن الإشارة إلى تلك المهنة، ومن الممكن أن نجد فى شخصية المونولوجست «صلاح وردة» التى أدّاها صلاح عبد الله فى فيلم «الفرح» بعض شذرات مما يجرى الآن، حيث إن هذا المونولوجست لم يعد أحد يطلبه ولا حتى فى الأفراح.
المونولوج رحلة طويلة وممتعة فى فن الغناء العربى على خشبة المسرح وأيضًا أمام كاميرا السينما.
«ما تستعجبش ما تستغربش» ليس فقط مونولوجًا شهيرًا لإسماعيل ياسين، ولكننى أقول لك أيضًا «ما تستعجبش ما تستغربش» إذا علمت أن بعض كبار نجومنا بدؤوا حياتهم بأداء المونولوج.. فهذا هو ما فعله يوسف وهبى ونجيب الريحانى وحسن فايق، ولا تزال الإذاعة المصرية تحتفظ بمونولوج سجَّله حسن فايق فى منتصف الثلاثينيات ليكافح به انتشار الكوكايين فى مصر ويقول فى مطلعه «شم الكوكاين خلّانى مسكين»!!
فى آخر أفلام رأفت الميهى «عشان ربنا يحبك» الذى عُرض قبل 12 عامًا استمع الجمهور إلى صوت عمر الجيزاوى، وهو يغنِّى «معانا الجاوى والبخور».. الفيلم بالطبع لم يحقّق إيرادات تُذكر ولا أعتقد أن جمهور الشباب القليل الذى دخل الفيلم تعرَّف على صوت المونولوجست عمر الجيزاوى، ولا على هذا المونولوج، ولا يعرفون أن «الجاوى» مادة سائلة لا تزال تستخدم فى معالجة شرخ الأحبال الصوتية، التسجيل الوحيد الذى تحتفظ به الإذاعة المصرية وتقدّمه أحيانًا بعض القنوات الفضائية أبيض وأسود لعمر الجيزاوى هو «العرقسوس» وهو يرتدى زيًّا شعبيًّا لبائع العرقسوس، أكثر من ذلك لا أحد يتذكَّر شيئًا لهذا المونولوجست، وبالطبع فإن السينما تعاملت بحذر مع الجيزاوى، وكان المخرج عباس كامل الذى بدأ حياته رسامًا للكاريكاتير هو أفضل مَن استعان بالجيزاوى فى الأفلام التى كان يلعب بطولتها محمد التابعى والسيد بدير فى دورَى «كبير الرحيمية جبلى» وولده «عبد الودود».. كانت ملامح عمر الجيزاوى الصعيدية ولهجته تساعده على استكمال ملامح تلك الصورة الكاريكاتيرية، ورغم ذلك فإن الجيزاوى الذى ظلمته الإذاعة كثيرًا وهو حى أمعنت فى الظلم له بعد رحيله وتغاضت عن حكم قضائى يقضى بأحقيته فى ذكر اسمه كملحن مشارك فى تلحين أغنية «مصر اليوم فى عيد»، حيث إن جمال سلامة أخذ لحنًا قديمًا للجيزاوى وقدَّمه لشادية بنفس الاسم، لم يستمع الجيزاوى إلى اسمه فى الإذاعة على هذا اللحن، ورحل قبل أن يقدّم شريف عرفة فيلمه «سمع هس» الذى استوحى أحداثه من سرقة لحن شعبى ووضع كلمات وطنية على أنغامه «وطنى وطنى يا وطن طن» وهى واقعة عاش تفاصيلها الجيزاوى.
فى دنيا المونولوج لا أعتقد أن هناك مَن سيحقّق نجاحًا أكبر من إسماعيل ياسين ومحمود شكوكو بعد أن مات هذا الفن الساخر بالسكتة الجماهيرية!!