في رواية "التي تعد السلالم" للكاتبة العمانية هدى حمد تثبت الكاتبة انها قاصة مدهشة تكتب بطريقة سردية مميزة اذ انها تحول كل ما تتناوله ولو من يوميات الحياة العادية الى مادة جذابة تشد القارىء اليها لتبدو له في أهمية الامور المصيرية او بعضا منها.
قدرة هدى حمد على وصف الحوار مع خادمتها والاحداث التي تدور في علاقتهما اليومية وعلى تحويل كل ذلك الى امور مهمة وجذابة تبدو قدرة لا نجد ما يماثلها الا في القليل من الاعمال السردية العربية حاليا.
ولعل رواية هدى حمد الاخيرة هذه من الاعمال القليلة التي تتناول بعمق وجاذبية وإيحاء العلاقة بين العمالة الاجنبية -وهي هنا الخدم- وبين اهل البلدان التي يعملون فيها -وهي في الرواية تراوح بين دولة الامارات العربية المتحدة وسلطنة عمان- وتركز على حياتهم في السلطنة. وهي تمثل كذلك غورا في النفس البشرية من حيث علاقة الانسان مع الاخرين وهم هنا هؤلاء الذين صنفوا بانهم حضاريا او عرقيا في درجة اقل من درجته.
والرواية ايضا تلقي ضوءا على مسألة قديمة ترقد في الذاكرة والوجدان هي مسألة العبودية وتجارة الرقيق والعلاقات القديمة بين سلطنة عمان وزنجبار وتحول الامر الى ثورة وقتل وتهجير للعمانيين.
وتركز الكاتبة على مسألة ما سماه البعض صفاء العرق ومحاولتهم الحفاظ على هذا الصفاء وذلك من خلال قصة حياة عامر زوج بطلة الرواية وهو من اب عماني وأم افريقية خطفه جده طفلا ورباه بعيدا عن امه التي لم يعرفها.
جاءت الرواية في 271 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار الاداب في بيروت.
تتناول الرواية علاقة "زهية" زوجة عامر الفنانة التشكيلية التي درست في كلية الفنون الجميلة في القاهرة بالخادمات الاجنبيات اللواتي عملن لديها. عامر مهندس في شركة للنفط وهو يكتب قصصا قصيرة ويعمل منذ صغره على كتابة رواية استمر في تجميع موادها. انه يحن الى معرفة والدته.
اما زهية فهي ذات نظرة متعالية الى الخادمات الاجنبيات لا تدخلهن في عالمها ولا تريد ان تعرف شيئا عن عالمهن وهمومهن ومشكلاتهن. استخدمت العديد منهن وبينهن الفلبينية والاندونيسية والسريلانكية. اخرهن السريلانكية التي تركت العمل لديها بعد سنوات من الخدمة بسبب برودة علاقتها بها.
تقول زهية مثلا "الخدم هم الخدم. لا يمكننا ابدا ان نستأصل رغبتهم في زوال نعمنا او انتقالها اليهم شئنا ام ابينا. حتى وان انحنوا لنا وابتسموا وابدوا الاحترام ٍالعارم. عامر لا يصدقني. يفرح قلوبهن الصغيرة بكلامه المهذب.. ببعض المال في جيوبهن. يستمع اليهن.. يحكين له عن قرف حياتهن وعامر طفلي الصغير الذي لم يكبر بعد يصدقهن ويقلق عليهن."
الخادمة الاخيرة كانت "فانيش" الاثيوبية بقصة حياة فقر أهلها الحزينة وما تعرضت له من عذاب حين جاؤوا بها الى الخليج كأنها واحدة في قطيع من المواشي. اضطرت الى ترك دراستها الجامعية لان ازمة حلت بوالدها فأفقرته. كانت مهذبة ونظيفة ومثالية في تصرفها ولديها احترام لنفسها ولكن كل ذلك وصفته زهية بانه خدعة وتمثيل واستمرت العلاقة قاسية باردة مع الخادمة.
يدخل في جو القصة ما يبدو قادما من فانتازيا خيالية غريبة. الخادمة باكية تشكو لسيدتها -التي ترفض في البداية الاستماع اليها- من انها تحلم اكثر من مرة بامرأة تنتحر في هذا البيت. تستخف سيدتها بالحلم وتزجرها. لكن الغريب في الامر هو ان زهية نفسها بدأت تشاهد هذه المرأة المنتحرة في أحلامها. لم تخبر خادمتها بالامر. قامت بالتدريج برسم صورة المرأة المنتحرة في لوحة جدارية رسمتها في غرفة بالمنزل. صدفة رأتها الخادمة فاستغربت وخافت لانها عرفت فيها المرأة المنتحرة.
هنا نعيش في عالم بذكرنا برواية "صورة دوريان جراي" للكاتب الانجليزي الشهير اوسكار وايلد. في الرواية يبقى البطل شابا جميلا لا يشيخ اما رسمه المعلق في غرفة مقفلة فهو الذي يخضع لتقلبات الزمن ويحمل بدلا منه بصمات الايام والسنين.
عندما اكملت زهية رسم صورة المرأة صارت ترى فيها شيئا من قساوة وجهها هي وتعابيره. وبعد ذلك رأت فيها بعض قسمات امها الصارمة التي كانت تؤنبها وتسكت عن ضرب أبيها لها وهي طفلة. شكها في الخادمة جعلها تسرق دفتر مذكراتها لتعرف أسرارها منذ صغرها. الا انها لم تجد في المذكرات الا كل ما هو خير ونبيل.
بدأت محاكمة الذات هنا. في غور نفسي جميل مؤثر يبدو لنا ان تلك الشخصية الباردة القاسية اي شخصية زهية هي التي "انتحرت" اذا صح التعبير لتحل محلها شخصية تحولت بعد محاكمة للذات الى انسان طيب نبيل. ولعلها لم تتحول بل كشفت عن الانسان الطيب النبيل الذي كان راقدا في أعماقها فجاء من يوقظه.
بعد البرودة والقسوة في المشاعر ووضع الخامة في مكان "بعيد عنا" يجب الا تتجاوزه لتصل الى "حدودنا" تحولت الفتاة الاثيوبية المحاصرة الى منقذة لسيدتها.
صادقتها السيدة وصارت تخرج معها الى المطاعم ودور السينما وتستمع الى كل امورها وتشتري لها الهدايا. لقد نشأت بينهما صداقة عميقة.
ونتيجة ذلك عادت الحرارة والبهجة الى حياة الزوجين عامر وزهية بعد هذا "الانقاذ".
إنها رواية آسرة وومتعة وعمل سردي نادر في هذه الايام.