المسرحى النرويجى الأشهر هنريك أبسن (1828 - 1906) أبدع ونشر ذات يوم تحفة رائعة تعمَّد أن يسميها «دعائم (أو أعمدة) المجتمع»، مع أنها تحكى عن الحياة عندما تقوم على أكاذيب تكتسب بالإلحاح والتراكم ومرور الزمن قوة، وربما شرعية مجتمعية أيضًا، لدرجة أنها حين تنفضح وتتعرَّى يكون رد فعل الناس الذين عايشوها وتعوَّدوا عليها ونافقوها سنين طوالا أقرب إلى اللا مبالاة التى تخفى رغبة دفينة فى رفض الحقيقة والبقاء فى واقع متخم بالزور والكذب، بيْد أنه مريح.
هذا ما يقوله بوضوح مشهد النهاية فى مسرحية أبسن التى تتتبع حكاية رجل أفّاق يُدعى «القنصل برنيك» المقيم فى إحدى مدن النرويج الساحلية، حيث يطوع وظيفته لممارسة صنوف شتى من «البزنس» أقله مشروع وأغلبه فاسد، وعندما يصل إلى مرحلة تبدو فيها أعماله السوداء من تهريب ورشوة وخلافه على وشك الانكشاف بما يهدّد سمعته ومكانته الاجتماعية التى حقّقها بالنصب والخداع، يبحث عمن يلبس الفضيحة نيابة عنه، ويجد ضالته فى صديقه وشريكه الطماع جون جونسون، فيعقد معه اتفاقًا بمقتضاه يحمل هذا الأخير علنًا كل الموبقات مقابل أن ييسر له القنصل الفاسد فرصة الهجرة لأمريكا ويمنحه مالًا يكفى لحياة رغدة هناك.
وبعد رحيل جونسون بخطايا وجرائم صديقه، يستأنف برنيك رحلة فساده فتزدهر أعماله، ويراكم ثروة طائلة تجعله سيد المدينة بلا منازع، يحيط به دائمًا جيش جرار من الأعوان والأتباع والمنافقين.
والحقيقة أن برنيك وهو يسبح فى الثروة والجاه يبدو قد حسب حساب كل شىء إلا عودة جون جونسون من منفاه الاختيارى، غير أن هذا الأخير يفاجئه ذات يوم بعودته للمدينة طامعًا أن يتزوَّج بفتاة يحبّها، ولكى تتم الزيجة لا بد أن يتخلَّص من السمعة السيئة التى تركها خلفه قبل أن يسافر لأمريكا، هنا لا يجد أمامه إلا اللجوء إلى صديقه وشريكه القديم الذى بدوره كان قد تزوَّج من شقيقة جونسون ورُزق منها بابن صار الآن شابًّا يافعًا.
صاحبنا برنيك يجد نفسه واقعًا فى مأزق خطير، فهو لا يستطيع التملُّص من صديقه وصهره، لكنه إذا ساعده على تبييض سمعته، فسوف يفضح نفسه ويقوض أركان مملكته.. إذن لا شىء أمامه إلا أن يتخلَّص نهائيًّا من حامل أوزاره. فيعمد فى البداية إلى المماطلة وتضييع الوقت بالوعود التى لا ينفّذها أبدًا، وإذ يشعر جونسون بالاشمئزاز واليأس يقرر العودة مرة أخرى إلى المنفى، غير أن القنصل يظل شاعرًا بالقلق وأنه سيبقى مهددًا طالما بقى شريكه على قيد الحياة، لهذا يدبّر للخلاص النهائى منه، فيتآمر لتسفيره على مركب يعرف أنه معطوب ولن يكمل الرحلة إلى أمريكا بسلام.
تمضى مؤامرة برنيك فى طريقها من دون عوائق حتى تقطع سياقها معلومة تصل إليه وتزلزل كيانه، إذ يأتى مَن يخبره بأن ابنه ووحيده قرر السفر إلى أمريكا على متن المركب المعطوب نفسه الذى سيسافر عليه جونسون.. عندئذ يداهمه إحساس بأن لحظة الحقيقة دانت وحانت، وصار يتعيَّن عليه الآن الاختيار بسرعة بين أن يفقد ضناه ويحتفظ بحياة العز والجاه، أو يتطهَّر من أدرانه وأكاذيبه ويخرج على الناس معترفًا بحقيقته الفاسدة فيكسب راحة النفس ويضمن السلامة لابنه.
يذهب القنصل مضطرًّا إلى الخيار الثانى، ويعلن على الملأ تاريخه الأسود، فإذا بجمهور المدينة يواجه الحقيقة المرة بقليل من الدهشة والاستياء، وكثير جدًّا من الفتور واللا مبالاة.. لقد تعوَّد الجمهور على الكذب واستقر وارتاح عليه ولا يريد للحقيقة أن تعكِّر صفوه وتهز استقراره!!
<iframe src="http://tahrirnews.com/random.php" style="display:none"></iframe>