تُشعرنى أحيانا كثرة البيانات بأن هناك من على رأسه بطحة ويريد إبراء ذمته أو بطحته أمام الرأى العام، لماذا كل هذه المبررات التى يصدرها بين الحين والآخر مهرجانا القاهرة والإسكندرية للتمهيد لعرض فيلم تركى، أو لاستضافة سينمائى من هناك، مهرجان القاهرة السينمائى فى بيان أخير له، قال إنه سيحتفل بمئوية السينما التركية، ثم نكتشف فى بيان تال أن الاحتفالية ستتقلص فى نهاية الأمر إلى فيلم واحد يعرض فى قسم «كلاسيكيات»، «أى أنه لا توجد احتفالية ولا يحزنون»، ربما تراجع وزير الثقافة عن تلك التظاهرة حتى لا تحسب عليه سياسيا.
مع الأسف صار د.جابر عصفور يتصدر أخبار مهرجان القاهرة السينمائى، بتوجه «برجماتى» نفعى تم وضع الوزير فى المقدمة، حتى يضمن رئيس المهرجان الناقد الكبير سمير فريد تذليل كل العقبات الإدارية والمادية، فلا تجرؤ مثلا رئيسة دار الأوبرا أن تقول لا لوزير الثقافة، لو طلب منها أن تفتح الدار أبوابها للمهرجان، لا أوافق على أن نتخلى عن الأحلام بدعوى أن هذه هى مصر التى لا تنفذ سوى تعليمات الكبار.
ومثل توابع الزلزال لا أتصور أن مهرجان الإسكندرية برغم استقلاله عن التبعية الرسمية للدولة بحاجة إلى أن يُجدد للعام الثانى أنه سيعرض فقط ويستضيف فقط المعارضة من أفلام ونجوم أتراك، والحقيقة أن هناك فارقا كبيرا بين الموقف من السينما الإيرانية والتركية، السينمائى الإيرانى يعارض ويضطر إلى الهجرة خارج الحدود بسبب الملاحقات القانونية وأحكام السجن، ولهذا مثلا تتعاطف المهرجانات الكُبرى مع المعارضة الإيرانية وتعرض أفلام محسن مخالباف وعباس كيروستامى ومرجان سترابى وسميرة مخلباف وغيرهم، وتصدر بيانات تطالب بالإفراج عن جعفر بناهى ومحمد رسولوف، وغيرهما ممن صدرت بحقهم أحكام تصل إلى السجن والمنع، ليس فقط من السفر، بل والتوقف عن ممارسة المهنة، ولهذا حرصت قبل نحو عام ونصف العام عندما كنت فى زيارة مع وفد مصرى إلى طهران، أن أعلن فى لقاء عام مع وزير الثقافة الإيرانى تضامنى مع السينمائيين الإيرانيين الممنوعين. ما يجرى فى تُركيا أمر مغاير تماما، نختلف سياسيا وشعبيا مع تدخلات أردوغان فى السياسة الداخلية المصرية، لكننا لا نتخذ موقفا ضد الشعر ولا المسلسل ولا الأغنية التركية.
فى أعقاب ثورة 30 يونيو طالب البعض بمقاطعة المسلسلات التركية، وبالفعل أغلب الفضائيات المصرية أعلنت مقاطعة الدراما التركية، وتدخلت جبهة الدفاع عن حرية الإبداع فى سابقة خطيرة مؤيدة هذا القرار، حتى اتحاد كتاب الدراما العرب، اعتبرها قضيته، لكن لأسباب مغايرة تماما، وهى أن إيقاف استيراد التركى سيؤدى إلى كثرة الطلب على بضاعتهم المحلية، التى صارت تعانى من البوار، الذى حدث بعدها أن الفضائيات عادت بعد بضعة أسابيع، بناء على طلب المشاهدين لتعرض الدراما التركية. أرى أن القضية برمتها تخفى دائما إحساسا باتهام مُسبق صنعه المثقفون فى بلادنا يفرض عليهم فى كل مناسبة وغالبا دون مناسبة إعلان الولاء. السياسة تلعب دورا من المؤكد فى الثقافة، لكن يبقى الأساس وهو أن هناك فرقا بين عدو استراتيجى مثل إسرائيل، فهى النموذج المرفوض، فلا يمكن عرض أو دعوة فنان يحمل الجنسية العبرية حتى لو قدم فيلما مؤيدا للموقف العربى، لأن لدينا قرارا يعبر عن إرادة جماعية أسفر قبل نحو 35 عاما عن بناء هذا السياج الواقى، الذى صنعه المثقفون، ولعبت القاهرة والراحل سعد الدين وهبة دورا قياديا فى هذا الاتجاه، وصار قرار الجمعية العمومية لاتحاد النقابات الفنية المصرية ومن بعده اتحاد النقابات العربية ملزما للجميع، ولا يُسمح ليس فقط باختراقه ولكن يتصدى للتحايل عليه. البعض حاول بدعاوى متباينة عرض الفيلم التسجيلى «خمس كاميرات محكمة» أخرجه الفلسطينى عماد برناط والإسرائيلى جاى دافيدى، لدينا أكثر من 200 مهرجان عربى سينمائى، ولم يعرضه سوى فقط مهرجان «الرباط»، مهما كانت المبررات فى تسويق الفيلم بأنه يفضح الممارسات الإسرائيلية، إلا أنه فى النهاية فيلم إسرائيلى، كما أن صندوق دعم الفيلم الإسرائيلى مشارك فى إنتاجه.
أثق تماما أن الزملاء فى مهرجانى القاهرة والإسكندرية غير قابلين للاختراق الإسرائيلى، لكن لا يزال الموقف من السينما التركية ينبغى أن لا تحوطه كل هذه الحساسية المفرطة كأنهم «عاملين عملة»!