يقولون دائمًا «خير الأمور الوسط» وهو بالفعل قول صحيح. فى عديد من أوجه الحياة يصبح الوسط هو المعيار الصحيح، إلا أننا أحيانًا نختار الوسط ليس عن قناعةٍ بقدر ما هو محاولة للهروب من أزمة كانت تتطلب مواجهة حاسمة. اللجوء إلى الوسط يبدو فى هذه الحالة طوق نجاة، وفى العادة نخترع دائمًا توصيفًا لغويا يرضينا.
تمنحنا اللغة أحيانًا كلمات منحوتة تفرضها علينا الضرورة التى نعيشها نمزج فيها بين متناقضين، مثلا على المستوى السياسى كانت العلاقة بين مصر وإسرائيل تُوصف فى مرحلة سابقة وذلك قبل حرب 73 بعام أو عامين بأنها اللا سلم واللا حرب، شىء من هذا قد تجده فى كلمة «متشائل» التى نَحَتَها قبل 25 عامًا الكاتب الكبير الفلسطينى الراحل إيميل حبيبى، وذلك فى تحليله لإمكانية إيجاد حل للقضية الفلسطينية، فوجد الحل فى اختراع هذه الكلمة التى تجمع فى مدلولها بين متناقضين (التفاؤل والتشاؤم).
قبل سنوات قليلة دخلت إلى اللغة العربية كلمة أخرى يتم تداولها فى العالم كله دون ترجمة وهى «برقينى»، إنه أحدث وصف لما يُعرف بلباس البحر الشرعى الذى انتشر فى بعض الشواطئ، وهذه الكلمة مزيج بين «البرقع» و«البكينى». ترتدى «البرقينى» بعض الفتيات والسيدات المسلمات فى الغرب عندما يُردن نزول البحر أو حمام السباحة حيث يغطى شعر رأسهن وجسدهن، فهو به ملامح المايوه. بعض الدول الأجنبية لا تزال تتحفظ فى السماح باستخدام البرقينى، ليس هذا ما أريد أن أتناوله، ولكن ما يعنينى أننا عندما نتأمل مدلول الكلمة نجد أن فى حياتنا تنويعات عديدة على «البرقينى»!!
النجوم الذين يسيطرون على مفردات العمل الفنى فى الدراما السينمائية والتليفزيونية يفرضون كل شروطهم على جهات الإنتاج، حتى أبناؤهم -رغم ذلك- لن يعترفوا، ولا جهة الإنتاج سوف تعترض، ولن تجد من يقول للنجم «بم». إذا سألت المنتج سيؤكد أن هذا النجم فى الاستوديو كان طوع بنانه ينفّذ ما يطلبه منه، ولو اتجهت إلى المخرج سوف يلقى عليك درسًا فى كيفية التزام النجم، وهو ما سوف يردده المؤلف الذى أصبح ترزيًّا ولكنه سوف ينكر تمامًا ممارسته لهذه المهنة فى أثناء كتابة النص، ولو سألت الممثلين الذين يكتوون بنار هذا النجم فسوف يقولون الكثير إلا أنهم سوف يطلبون منك أن لا تنشر الحقيقة على ألسنتهم.. أما ما هو منسوب إليهم فهو «برقينى» سيقولون إن النجم يتدخل نعم ولكن لصالح الفيلم أو المسلسل بل وصالح الدراما العربية كلها.
لو ألقيت نظرة على أكبر وأهم تظاهرة ثقافية تقيمها مصر فى مجال السينما وهى «مهرجان القاهرة السينمائى الدولى» سوف تكتشف أن علاقة المهرجان بوزارة الثقافة أشبه بهذا «البرقينى»، فهو من الناحية الشكلية مهرجان مستقل وحر فى قراراته وله كيان منفصل عن الدولة، ورئيسه هو الناقد الكبير سمير فريد، إلا أنه فى الحقيقة تابع فى كل قراراته للدولة حتى إنه مؤخرا أصدر فى بيان رسمى أنه سيحتفل بمئوية السينما التركية وأن الخلاف السياسى لا يمكن أن يفسد للثقافة قضية، وهو رأى سليم وسديد إلا أنه بعدها بأربع وعشرين ساعة فقط أكد بيان آخر صادر أيضا عن المهرجان، أن المئوية هى للسينما اليونانية فقط وأن ما يصدر عكس ذلك لا أساس له من الصحة! أتصور أن تبعية المهرجان المباشرة للدولة هى التى أدت إلى هذا التخبط، لأن جهة سيادية اعترضت، فكان ينبغى أن لا يكتفى الوزير بأن يلحس بيانه الأول، ولكنه أيضا لم يعتذر.
آخر صيحة فى «برقينى» هو البيان الذى أصدرته مؤخرا قناة «القاهرة والناس» بأنها ستوقِف برنامج «الراقصة» لأجل غير مسمًّى وفى نفس الوقت تؤكد القناة أنها غير نادمة على إنتاج البرنامج، تريد إرضاء الرافضين والمؤيدين له، عين فى الجنة وعين فى النار، عين تتخفى تحت البرقع وعين تجاهر بالبكينى!
