كتب العبد لله من قبل عن حال موت السياسة، أو على الأقل احتضارها وتراجع وانحطاط تأثيرها فى حياتنا، على النحو الذى يتجلى حاليا فى مظاهر وأزمات عبثية يدفع المجتمع والدولة ثمنا باهظا لها، بينما كلاهما يخوض ويتحرك وسط نار حرب حقيقية بالغة القسوة وغير مسبوقة فى كل مراحل التاريخ الحديث لهذا البلد، إذ نحن الآن مضطرون إلى القتال بضراوة دفاعا عن حاضرنا ومستقبلنا على جبهتين شاسعتين فى آن واحد.. أولاهما الجبهة التى تتمترس خلفها قوى وعصابات العنف والإرهاب والتخريب الشامل «مادى وعقلى وروحى»، والثانية جبهة البناء وإزالة خرائب التخلف والفساد والبؤس الاقتصادى والاجتماعى والسياسى.
وتحت الظلال الثقيلة لحرب من هذا النوع يفترض أن الطلب على السياسة يزيد ولا يقل، غير أن العكس تماما هو الحاصل الآن، وانظر حولك من فضلك سوف ترى أن لا شىء، ولا شعار تدار البلاد على أساسه إلا مقولة «الحركة بركة»، مع أن هذه «البركة» لا يمكن أن تأتى من «الحركة» ما لم يسبقها ويواكبها عقل سياسى نشط يفكر ويبدع ويرسم بدقة مواضع المشى، قبل أن تتحرك الأقدام على أرض ليست منبسطة ولا سهلة، إنما هى بطبيعتها وعرة ومزدحمة، وتشغى بالمعوقات والخصوم، الذين يستحيل وضعهم جميعا فى سلة واحدة، إنما تقتضى الحكمة التعامل معهم، كل حسب مقدار الخطر الذى يمثله، ووضع أولويات صارمة تضمن أن لا يختلط الحابل بالنابل والعدو الحقيقى بالصديق ولو كان مختلفا وناقدا.
بصراحة، هذا العقل السياسى غائب فعلا غيابا ملحوظا، لذلك تبدو الفوضى والعشوائية حاليا ملكا متوجا يتحكم فى مسار الأحداث، ويدخلنا، دولة ومجتمعا، فى صراعات عبثية تشتت جهودنا، وتخصم من رصيد قوتنا فى مواجهة الخراب الموروث والعدو الإرهابى المجرم، قدرات ثمينة كنا وما زلنا فى أمسّ الحاجة إليها.
هنا سأكتفى بمثلين ودليلين خطيرين فقط، يفضحان فقر وغياب التفكير والتخطيط السياسى السليم، الدليل الأول هو ذلك الصدام الخشن وغير الضرورى مع شرائح شبابية قد تكون محدودة العدد ورعناء وضعيفة الوعى «بسبب الجدب وتصحر وتسمم بيئة الثقافة والسياسة التى سادت طوال أكثر من ثلاثة عقود»، غير أنها تبقى شرائح مهمة بسبب كونها الأكثر إخلاصا وتعليما ونشاطا، كما أن ضررها يكاد يكون معدوما، إذ لا يتعدى الشطط اللفظى والضجيج المزعج فحسب، وبالمقابل هناك تدليع وتهاون ملحوظ فى التعامل مع بعض جماعات وعصابات التجارة فى الدين، التى وإن تمتع بعض قادتها بدرجة من اللؤم والانتهازية، إلا أن التسامح والتساهل مع وجودها المؤذى فى المجال السياسى العام «بالمخالفة لأحكام واضحة وقاطعة فى الدستور» يبقينا فى قلب الخطر الوجودى الرهيب الذى لمسناه بأيدينا منذ سطت عصابة إخوان الشياطين على ثورة 25 يناير وحتى الساعة.
فأما الدليل الثانى على استبدال العشوائية بالسياسة، فهو هذا الاستهتار وتلك اللكاعة الغريبة فى إنجاز آخر استحقاق دستورى يكمل منظومة سلطات ومؤسسات الحكم الأساسية.. أقصد الانتخابات البرلمانية، التى وضع لها الدستور سقفا زمنيا محددا «ستة أشهر من إقراره» تجاوزناه الآن بأكثر من شهر كامل من دون أن نعرف أو يعرف أحد متى؟ وكيف؟ سيكون عندنا برلمان!
وللحديث بقية..