■ ■ نهاية الأسبوع الماضى نشرت إحدى صحفنا الخاصة تقريرًا طويلا عريضا زيَّنته بعنوان صادم تقول كلماته «عصابات الرعب الأسود فى القاهرة»، أما لماذا هذا الرعب «أسود» وليس أى لون آخر؟! فإن الزملاء المسؤولين عن التحرير فى الصحيفة لم يمهلوا القارئ فرصة أن يتلقى الإجابة من متن التقرير وإنما وضعوا بجوار العنوان العربى وببنط ضخم جدا كلمة إنجليزية سيئة السمعة تنطق بالقصد من الإشارة إلى هذا اللون بالذات، ألا وهى «niggers» ومعناها «الزنوج» أو البشر أصحاب البشرة السوداء، فى إشارة إلى «مراهقين أفارقة» أغلبهم من جنوب السودان يقيمون فى مصر ويقول التقرير إنهم ينشطون فى عصابات ويرتكبون أعمال عنف ضد شخصيات سودانية وإفريقية تعيش فى القاهرة.
المشكلة ليست طبعًا فى أن يرصد تقرير صحفى ظاهرة من هذا النوع (لم نفهم من التقرير حجمها) لكن المشكلة الحقيقية (لكى لا أقول المأساة) هى روح الاستعلاء والطريقة المهينة التى جرى بها تقديم الموضوع للقراء ابتداء من العنوان الذى بدا ناضحا بعنصرية فجة ومقيتة وجاهلة أيضا، فهو يترك انطباعا فوريا عند كل من يقع بصره على كلماته (العربية والإنجليزية) أن الزملاء يقصدون أن خلق الله الآدميين من سود البشرة هم غالبا «مجرمون ومرعبون» كذلك!!
لقد فجَّر استخدام الزميل محرر التقرير كلمة «niggers»، فضيحة مهنية مكتملة الأركان وجدت طريقها إلى بعض وسائل الإعلام العالمية («بى بى سى» مثلا) كما أثارت عاصفة من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى، وقد استنكرها واستهجنها بشدة هؤلاء الذين يجيدون اللغة الإنجليزية ويملكون ثقافة تسمح لهم بمعرفة أن هذا التعبير بالذات تجاوز مجرد سوء السمعة وصار محظورًا استخدامه فى المجال العام لأنه محمَّل بمعانٍ مسرفة فى العنصرية واحتقار وإهانة بشر أبرياء لا مشكلة عندهم إلا كون الخالق سبحانه وتعالى خلقهم بلون بشرة مختلف عن بشر آخرين يعيشون فى بلدان ما زالت تغالب بقايا ميراث ثقافة منحطة خلّفتها عهود التوحش والهمجية الاستعمارية فى طورها البدائى، أى قبل أن تتأنق وتتزوق بمساحيق التحضر والرقى المصطنع وبتكنولوجيات الهيمنة الحديثة الناعمة، التى من آثارها أن أصبحت تلك الكلمة المشار إليها آنفا، يقع كل من يستخدمها (كما فعل الزملاء عندنا) تحت طائلة القانون باعتباره مرتكبا جريمة التمييز والإساءة العنصرية.. يا أيها الزملاء ارحمونا قليلا من التهور والخيبة القوية والادعاء بغير علم.
■ ■ من دون مناسبة (أو من دون مناسبة محددة) تذكرت أمس كلمات كنت كتبتها منذ نحو ست سنوات تعليقا على مقال نشرَتْه أيامها صديقة عمرى وزميلتى الأعز نجلاء بدير وختمته بسؤال بدا لى وقتها هتافا ينزّ بالأسى والوجع، إذ كان نصه «أنا باكتب ليه؟!»، أما تعليقى فقد استهللته باعتراف للصديقة وللقراء معًا أن سؤالها هيَّج عندى ألم جرح غائر قديم يعود إلى بداية تآكل تفاؤلى العبيط بعدما لاحظت -متأخرًا- أنه بينما أنا مواظب على إعادة صياغة مظاهر المسخرة الشاملة التى نعيشها ناقلا إياها من الواقع إلى الورق فإننى صرت أعيد إنتاج نفسى واجترار سخرياتى وعباراتى عينها، وبتراكم الزمن واستمرار الكتابة وبقاء الأوضاع والأحوال تسير وتتقدم إلى الخلف زادت معدلات النحر والتآكل فى ثروتى من العبط وتحولت الملاحظة المحزنة إلى عقدة حقيقية ثم تفاقمت هذه الأخيرة وصارت جرحًا يتعمق ويتقيح يوميا تحت بصرى ولا أملك تجاهه إلا مراوغة آلامه ومصارعتها كلما أمسكت بالقلم واحتشدت لأداء واجب الكتابة معاندًا شعورًا لا يطاق بالملل والتكرار الذى لا بد يورّث الكفر بجدوى الكلام من أصله وقد ينزلق إلى عدمية وغرق نهائى فى مستنقع القنوط واليأس من كل شىء!!
ثم ختمت سطور التعليق باعتراف آخر بُحْتُ لها فيه علنًا: إننى أيام التفاؤل العبيط كنت سأجيب عن سؤال «لماذا نكتب؟» بمرافعة طويلة عريضة عن رسالة الكاتب والمثقف فى مقاومة الظلم والفحش والقبح بالكلمة والقلم، غير أننى الآن أشعر بالحاجة إلى بعض التواضع فأقول إننا نكتب لأن هذه هى مهنتنا، ونحن نجتهد فى كتابة الصدق وما نعتقده فى صالح الوطن وأهله، لأن عندنا ضميرًا ولم ننضم بعد إلى مباحث التموين، وربما أضفت بشىء من الخجل والعبط: إن الكلام لا يضيع وإن جهاد الإنسان للخروج من الظلمات إلى النور عادة يبدأ بـ«كلمة».
هكذا قلت وقتها، وليس عندى الآن شىء جديد.. صباح الخير.