فى أحد المساءات القريبة كنت وعدد من الأصدقاء ندردش كالعادة فى أمور دنيانا، وننتف بحماس فى ريش أوضاعنا الصاخبة الراهنة، وفجأة ومن دون مناسبة مباشرة هتف صديق متسائلا بأسى: أين اليسار؟ ثم تابع قائلا بالأسى نفسه: هل معقول أن المجتمع الآن تتصارع فيه طروحات وأفكار ودعايات كل القوى السياسية عدا اليسار ؟! ثم أردف: هو فيه مجتمع ممكن يمشى للأمام بينما التفاعل والجدل والتنافس كله يدور بين فرق اليمين فقط بمختلف تنوعاتها ودرجاتها، يعنى لو وضعنا جانبا ذلك اليمين الفاشى الطائفى المتطرف (الإخوان وأتباعهم) الذى نراه يحاربنا متوسلا بالعنف والإرهاب المجنون، فإن الساحة السياسية تبدو خالية تماما من الصنف اليسارى.. إلا تلك الحفنة من الغلمان البؤساء عقليا الذين يدّعون اليسارية ولكنهم يقفون عمليا فى قلب خنادق اليمين الفاشى الطائفى.
هكذا قال الصديق، ولست أعرف لماذا اعتبرتُ ملاحظته وأسئلته موجهة إلىّ دون غيرى من الأصدقاء، ربما كان السبب أننى قلق ومهجوس مثله بالموضوع، لهذا بادرتُ بالتعليق مصدقا على ملاحظته ومؤيدا لخطورتها، وقلت: رغم أن مجتمعنا يمر حاليا بظرف استثنائى جدا على كل الأصعدة، إذ فُرضت عليه حربا حقيقية بالغة الضراوة والقسوة مما يستلزم ويستدعى أن يلوذ بنوع من الوحدة الوطنية الصلبة التى بطبيعتها ومن ضروارتها أن يتعطل مؤقتا التنافس الأيديولوجى الطبيعى بين تنوعات الطيف السياسى يسارا ويمينا ووسطا وخلافه، ومع ذلك يظل هذا الفراغ الذى يتركه غياب اليسار أو ضعفه الشديد لدرجة فقدانه حتى قوة تأثيره الفكرى، أمرا مثيرا للقلق حقا (فى مراحل كثيرة وقريبة كان النفوذ الثقافى والفكرى والدعائى لليسار والقيم التقدمية والإنسانية الراقية التى يبشر بها، قويا بما لا يقارن بنفوذه السياسى والتنظيمى والحركى)، وأضفت أن الغياب اليسارى الراهن يحمل سببا قويا للشعور بالخطر على إمكانية التقدم بسرعة نحو مجتمع جديد ناهض تتشوق أغلبيته الساحقة إلى التمتع بالحياة فى ظل الحدود الدنيا من حقوق المساواة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية.
قلت هذا الكلام، فدار بين جمع الأصدقاء جدل وحوار طويل وعميق حول أسباب غياب اليسار وضعفه الموجع، لكننى ختمت القعدة بإشارة مسهبة إلى مسرحيتين شهريتين، كلتاهما عنوانها يبدأ بكلمتى «فى انتظار..»، المسرحية الأولى أبدعها الأديب الأيرلندى ذائع الصيت صمويل بيكت ونشرها باسم «فى انتظار جودو»، وهذا الأخير شخصية وهمية تبدأ المسرحية وتنتهى من دون أن نعرف من هو، ولماذا ظل بطلاها يتحدثان ويثرثران عنه وينتظرانه حتى هبط ستار المسرح عليهما.. ولا تبرير لذلك إلا أن بيكت (رغم انتمائه بدرجة ما إلى اليسار والأفكار والمواقف التقدمية والإنسانية عموما) كان نجما بارزا جدا فى تيار مسرح العبث الذى ألى مبدعوه على أنفسهم مواجهة مآسى الوجود الإنسانى وعدميته المؤلمة بالمحاكاة الدرامية لهذه العدمية.
أما المسرحية الثانية فقد كتبها المسرحى الأمريكى الكبير كليفورد أوديتس، وكان عنوانها واضحا وسافرا ومباشرا تماما، «فى انتظار لفتى»، و«لفتى» هذا رغم أنه اسم شخص فى المسرحية فإنه منقول حرفيا عن كلمة «يسار» بالإنجليزية.. هذه المباشرة فى العنوان تناسب حال أوديتس الذى كان لا يدارى انتماءه السياسى الصريح لليسار (بعكس مراوغة «بيكت» وزملائه العبثيين) كما أن المباشرة والوضوح نفسيهما طبعَا مضمون المسرحية التى تُعرض فى فصل واحد وخمسة مشاهد، قصة سعْى عمال غلابة للاتفاق على تنظيم إضراب احتجاجى فى مواجهة الاستغلال الواقع عليهم وسوء وبؤس أوضاعهم، وهم ينتظرون زعيمهم «لفتى» لكنه لا يأتى.. لأنه ببساطة تعرض لحادثة اغتيال ومات.. أو هكذا أُشيع فى أوساط زملائه.