الخراب والركام الهائل الذى تراكم على مدى نحو أربعة عقود متصلة ضربت خلالها المجتمع المصرى عاصفة عاتية من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الهوجاء المنحرفة التى صنعت بؤسًا وفقرًا وعوزًا رهيبًا وكاسحًا مقابل تخليق طبقة (هى أقرب إلى قطيع محدود العدد لكنه فائق الضرر) نزحت فى كروشها ثروات هائلة فادحة الحجم، هذه الطبقة أمعنت فى اللصوصية والتخريب ومص دماء الوطن وإهدار ثرواته حتى هبطت بنصف سكان البلد على الأقل إلى ما تحت خط العدم أو عنده تماما.. وبعد ثورتين عارمتين وأسطوريتين أسقطت، فى أقل من ثلاث سنوات، عصابتين تتنافسان فى السوء والفساد والإجرام والتخريب، غطى الحديث عن ضرورة التنمية الشاملة وإعادة بناء الخرائب الوطنية الموروثة على كل حديث آخر، وبدا الرئيس عبد الفتاح السيسى مهموما ومهتما بالشروع الفورى فى هذه المهمة المعقدة الخطيرة إلى درجة أنك لا تكاد تعثر على سيرة أى قضية أخرى فى كلامه وأحاديثه ولقاءاته ونشاطه كله تقريبا.
هذا الاهتمام الطاغى بقضية التنمية، هو أمر صحيح ولا مهرب منه، لأنه من المستحيل فعلا تحقيق أى إنجاز أو تطور على أى صعيد آخر ما لم نمسك أول طريق التعامل الجاد مع كل هذا الدمار والخراب الذى يسد الأفق أمامنا، غير أن هناك مشكلة لا بد من التنبيه والتحذير منها، ألا وهى نظرية «الوطن الشركة» تلك التى سادت وتحكمت أيام نظام الأستاذ حسنى مبارك وولده، ثم لما أتت العصابة الإخوانية وحاولت وراثتنا منه أظهرت نية واضحة لاعتناق هذه النظرية والمشى أبعد كثيرًا فى تطبيقها.
وبهذه المناسبة ربما يكون مفيدًا التذكير بأن ما يسمى الأزمة المالية العالمية التى تفجرت انفجارًا مدويًا ورهيبًا قبل نحو ست سنوات، أطاحت تماما وفضحت عقيدة «اقتصاد الفقاعة» بعدما كشفت حجم الكوارث الرهيب الذى انتهت إليه فى موطن اختراعها الأصلى فى بلدان الغرب الرأسمالى.. فهذه العقيدة تقوم على آلية جهنمية تفضى إلى تخليق جزر وواجهات ملمعة مسرفة فى البذخ وتفتقر فى الآن نفسه إلى أى أصل إنتاجى (سلعى أو خدمى) حقيقى، وإنما تجهد فى بناء «أشكال» و«ديكورات» اقتصادية مبهرة تخطف أبصار السذج بمظاهر حداثة كاذبة ومتوحشة، بينما المضمون محض خواء يرعى فيه تخلف وتشوه روحى وخلقى مريع، فضلا عن الخراب المادى الناجم عن إنفاق الجهد وتبديد المال على فقاقيع لا تضيف شيئا يذكر إلى أصول الثروة والرفاه فى المجتمعات.. فقط أرقام أرباح وعوائد خرافية تتضخم وتتوالد وتتكاثر (كل ثانية تقريبا) على شاشات الكمبيوتر وفى كروش جيوش السماسرة و«شيوخ منسر» عصابات و«مافيات» الاستثمار التى رأيناها (خصوصا فى بلادنا) تسطو وتتحكم فى مفاصل اقتصادات الأوطان وسلطة الحكم معًا.
أنصار هذا النوع من النوع التخريبى من العقائد والنظريات الاقتصادية ما زالوا لم يخرسوا ولا شعروا بالخزى بعد، وإنما نراهم حتى الساعة يرتعون وينعقون كالبوم فى أبواق المجال العام محرضين على العودة للسياسات الرعناء نفسها التى تفشى البؤس والعدم والتخلف تحت ظلالها الثقيلة، بل إن نفرًا من النخبة الجاهلة ما زالت لا تخجل من التعبير الساذج علنا عن انبهارها بتلك النظريات المعطوبة (والوحشية أيضا) ونماذجها التنموية الكذابة والمشوهة، وتمنعها الجهالة وضيق الأفق والعقل من الاقتناع بأن حصاد تطبيقها على الأرض عندنا وعند غيرنا كان مجرد «خراب أنيق الشكل» أحيانا، وقد انحسرت عنه من سنوات أضواء الخداع مفسحة المجال لشمس الحقيقة المرة التى خلاصتها أن المجتمع الإنسانى كله عاش أكبر وأفظع عملية نصب ونشل وتبديد عرفها التاريخ المكتوب تركت المجتمع البشرى خلفها مشطورًا بقسوة غير مسبوقة بين أقليات متخمة ومنتفخة وعلى وشك الانفجار وأكثريات ساحقة تعانى وتكابد البؤس والجوع والضياع، بينما الكوكب نفسه مهدد بالفناء والتدمير الذاتيين تحت وطأة سنين وعقود طويلة من ممارسات الجشع والتهور والجرأة الإجرامية على العبث فى الطبيعة والضغط المجنون على عناصر بيئتها الحيوية.
أقول قولى هذا لكى أحذر وأنبه من خطر قطعان البوم هؤلاء.. فقد شربنا من كأسهم المسمومة سنوات سوداء طويلة ولا يمكن أن نعيد الكرَّة ونتجرعها من جديد.. ألا قد بلغت، اللهم فاشهد.