الأسبوع الماضى تسبب عطل فنى مجهول فى توقف موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، وسكت نبضه الهادر على الشبكة العنكبوتية لمدة دقائق قليلة، عاد بعدها إلى جحافل مستخدميه العابرين حدود كل اللغات والثقافات والأمم التى تعيش فى دنيانا.. غير أن هذه الدقائق كانت كافية لكى يقفز خبر «السكتة الفيسبوكية» المؤقتة متقدما وصاعدًا فوق كل ما عاداه من أنباء المآسى والحروب والكوارث الإنسانية التى يشغى بها كوكبنا.
وأول من أمس (الجمعة) أصابت السكتة نفسها قلب «فيسبوك» النابض، إذ توقفت لمدة ساعة كاملة خدمة الـ«CHAT» أو الرسائل النصية والدردشات والثرثرات التى يبثها الفيسبوكيون ويتداولونها بالملايين كل دقيقة.. فماذا كان شكل عالمنا فى هذه الساعة؟
لا أستطيع الإجابة قبل أن أدعو حضرتك للصبر قليلا واحتمال قراءة الآتى:
أولا: كلمة «شات» أو «CHAT» بالإنجليزية تستخدم فى وصف مواقف وحالات عديدة مثل «السَّمر» و«الدردشة» و«اللغو» و«الهلفطة» بأى كلام وخلاص، فضلا عن دخول الكلمة ضمن تعبير فائق الشهرة والشيوع هو «CHIT-CHAT» وترجمته الحرفية «القيل والقال»، أو بث وتداول الشائعات، أو بالأحرى «الأكاذيب» والمرويات المزورة.
ثانيا: وبمناسبة الأكاذيب والتخرصات المختلقة التى تسبح فى فضاء الخرافة براحتها وهى طليقة من أى إثبات أو دليل، فإن بحوثا ودراسات اجتماعية كثيرة ألقت الضوء على حقيقة خطيرة اقتحمت حياة البشر مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعى الإلكترونية، وهى الآن تبدو استقرت تماما فى قلب صورة المشهد الإنسانى، هذه الحقيقة خلاصتها أن الثورية الفائقة التى تتمتع بها تلك الوسائل المبتكرة خصوصا «فيسبوك» أحدثت انقلابين جذريين ومتعادلين فى القوة تقريبا، أولهما إيجابى يتمثل فى إلغاء شبه تام للمسافات والفواصل المادية والزمنية (بل والثقافية أيضا)، وزيادة الحميمية والقدرة على التفاهم بين البشر، أما الانقلاب الثانى فهو تلك القدرة الهائلة الفادحة وغير المسبوقة على اغتيال الحقيقة وربما دفنها إلى الأبد تحت ركام الشائعات والاختلاقات والأكاذيب، التى يمكن للفيسبوكيين إنتاجها ومراكمتها وتدويرها بمنتهى السهولة واليسر، وتكرار بثها على نطاق شاسع وواسع جدا، لم يكن متاحًا ولا ميسرًا لأى شخص أو جماعة أو أى جهاز استخباراتى (مهما كانت قوته) قبل أن يولد وحش «الفيسبوك» وإخوته، وينطلق وميضهم يعربد على مئات ملايين شاشات أجهزة الكمبيوتر من دون حدود ولا قيود ولا رقيب ولا حسيب أو حساب.
باختصار، تتمتع الأكاذيب فى العصر «الفيسبوكى» الراهن بثلاث ميزات ساحقة لا تملكها أى «حقيقة» مهما كانت نصاعتها وقوتها، أولاها أن الفيسبوك يوفر للأكذوبة قواما ماديا منظورا (وليس مجرد كلام شفهى)، والثانية هى ميزة التداول الواسع جدا مع سرعة فى الانتشار على نحو يلامس حدود الخرافة، فأما الميزة الثالثة فهى التمتع باستقرار ورقود دائم فى ذاكرة بصرية لا تمحى من محركات البحث مهما طال الزمن!!
هل ما زلت تتذكر سؤال ما الذى جرى فى الدنيا عندما توقفت ثرثرات الفيسبوك لمدة ساعة؟.. استراحت الأكاذيب قليلا، غير أن «الحقيقة» لم تعد ولا قامت من موتها الزؤام.
صباح الخير..