أعتذر إلى القراء، لن أكتب عن فيلم عيد ولا مسلسل رمضانى ولا نجم ولا حدث سياسى أو ثقافى أو فنى ولا حتى الصُندوق الأسود. من حق القارئ بالطبع أن يصبح الكاتب دائما على موجته، لكنى هذه المرة أستأذنكم أن تضبطوا مشاعركم على موجتى. أكتب عن شاعر غنائى عبقرى ومظلوم، إنه فتحى قورة «واسمعوا وعوا».
«كل العيون حواليك شغلها سحر عنيك مابقاش مكان لعنيه تبص منه عليك»، التى غنتها صباح بتلحين محمود الشريف، صورة شاعرية مبتكرة، هذه الكلمات المغرقة فى العاطفة كتبها صاحب أكبر ابتسامة عرفتها الأغنية المصرية طوال تاريخها، الذى صاغ لأول وآخر مرة قالب المونولوج بمعناه الدارج لعبد الحليم «يا سيدى أمرك أمرك يا سيدى»، الذى لحنه أيضا الشريف، ساخرا من الغناء التقليدى الذى كان يقدمه صالح عبد الحى والحامولى، بل وحتى أم كلثوم، بينما لم يستطع بالطبع الاقتراب من أستاذه عبد الوهاب.
لم ألتق أبدا الشاعر الكبير، لكنى كنت أتابع أغانيه، وتلك الغزارة الإبداعية، التى تدهشك بالصورة التى ترشق فى القلب واللمحة التى تفتح نفسنا على الحياة، ولهذا قال عنه الكاتب الكبير يحيى حقى «إنه بهلوان الوزن والقافية»، دلالة على الرشاقة الشاعرية، أتذكر مثلا «آلو آلو إحنا هنا» دويتو شادية وفاتن حمامة، و«الإنجليزى ده سيبك منه ماتسأليش أبدا عنه ضعيفة جدا فيه ما أعرفش غير بس آى لاف يو فرى ماتش». أتذكر «الناجح يرفع إيده» لعبد الحليم، والأغنيتان تلحين منير مراد، ولا ننسى «ليالى العمر معدودة»، التى نتابع كلماتها «وليه نبكى على الدنيا وناس فى الدنيا موعودة نصيبها يروح لناس تانية». كم كان عبقريا محمود الشريف، وهو يستخدم إيقاع «الفالس»، الذى ارتبط دائما بالفرح والبهجة ليحيله إلى رقصة الوداع. هل ننسى «إن راح منك يا عين» وهذا المقطع الملىء بالتحدى «وح اطفى بناره نارى وح أخلص منه تارى». هذه الأيام مرت الذكرى «37» لهذا الشاعر الاستثنائى الذى تقدر أغانيه بالآلاف، هو يصل بها إلى 7 آلاف، الرقم مبالغ فيه رغم أنه ذكره فى أحد تسجيلاته النادرة فى الإذاعة المصرية، وقال إنه كتب أغانى لنحو 1300 فيلم، أيضا رقم يتجاوز المنطق، لأن الفترة الذهبية التى كتب فيها أغانى الأفلام، هى من نهاية الأربعينيات حتى نهاية الستينيات نحو 20 عاما لم تُقدم السينما هذا العدد من الأفلام، التى هى ليست بالضرورة غنائية، وليس بالضرورة أن يكتبها كلها «قورة». المؤكد أنه أغزر شعراء الأغنية وجودا على الخريطة السينمائية. فى تسجيل إذاعى مع وجدى الحكيم حكى هذه المفارقة أنه كان يكتب أغانى فى نفس اللحظة لفيلمين ولمواقف مختلفة، وأخطأ عندما سلم أغانى كل فيلم للمخرج الآخر، والغريب أن المخرجين لم يلاحظا ذلك، وقدمت الأغانى، ولاقت إعجاب الجمهور والنقاد على اعتبار أنها تقدم رؤية عبثية، وصفها النقاد فى ذلك الحين بأنها فتح فنى جديد فى عالم الأغنية يتوافق مع فن اللا معقول.
من الأغانى التى لا تنسى «مال القمر ماله» لفوزى، و«حبينا بعضنا» لشادية، و«يا طبيب القلب» ليلى مراد، و«قلبى ومفتاحه» لفريد، و«أمانة عليك يا ليل طول» لكارم محمود وغيرها.
فى حياة فتحى قورة واقعتان، الأولى أنه كتب 40 أغنية من الباطن لشاعر كبير مقابل أجر، حيث إنه كان بحاجة إلى النقود، الغريب فى الأمر أن الشاعر الذى كتب له هو أيضا شاعر كبير وموهوب، لكنه تعامل بمنطق التاجر، اشترى منه الأغنيات لبيعها بثمن أكبر، لم يبح قورة باسم الشاعر، لكن فقط أشار إلى أنه يبكى كلما استمع إلى هذه الأغانى، وأنا أعرف بالطبع من هو الشاعر، لكن الأمانة الصحفية تقتضى أن أحتفظ بالاسم.
الموقف الثانى أن فريد الأطرش طلب منه أن يكمل هذه الكلمات «يا قلبى كفاية دق مادام حبيبك رق»، المطلع لم يقتنع به قورة، قال لفريد لو توقف القلب عن الدق لمات الحبيب فورا، فريد أصر فكتب قورة «عنيا قالت أيوه وانت بتقولى لأ»، والأغنية لا تزال تدق فى قلوبنا.
ملحوظة: أنشرها مع بعض التعديلات الطفيفة للمرة الثانية، وفتحى قورة يستحق أن نتذكره دائما بالتقدير فى ذكراه وبعيدا عن ذكراه!