كثيرا ما أشار الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى أحاديثه التليفزيونية إلى عبد الرحمن، واسمه الشائع عند المخضرمين فى المهنة «عم عوف»، إنه أشهر عامل تليفونات فى الصحافة، وعاصر كل العمالقة، واستمر يعمل حتى مطلع التسعينيات فى سويتش «روزاليوسف»، استلهم منه أديبنا الكبير إحسان عبد القدوس قصة «شرف المهنة»، قُدمت فى سهرة تليفزيونية.
فكرة القصة القصيرة تتناول عامل تليفونات كان يتنصت على مكالمات كبار الصحفيين، ولم يتجاوز الأمر فقط حدود التسلية البريئة، ولكن استوقفه أن رئيس التحرير وكان إحسان يقصد الكاتب الكبير محمد التابعى الذى وصفوه لتعدد علاقاته النسائية بدنجوان الصحافة -بالطبع يجب ملاحظة أن إحسان لا يكتب بالضبط ما حدث، ولكن ما يمكن أن يحدث- غرَّر التحرير بفتاة وتنكر لها، وكانت تلاحقه فى التليفون، وطلب من عم عوف أن يخبرها فى كل مرة أنه غير موجود.. تعاطف معها عوف، وفى لحظة انتفض ثائرا ضد رئيس التحرير، كانت دوافعه نبيلة إلا أنه باع على المقابل شرف المهنة.
وبعيدا عن حجم الحقيقة ومساحة الخيال فى القصة فإن إحسان أراد يصدر لنا الحيرة، هل نوافق على اختراق الخصوصية، حتى ولو كان الهدف هو حماية الأعراض؟
قبل أيام اتصل بى صديقى الكاتب الكبير معاتبا، لماذا لم تدافع عن المبدأ؟ سألته: أى مبدأ؟ أجابنى: أنت تقف دائما ضد المصادرة حتى ولو كان عملا فنيا رديئا، فأنت ترفض أن تتدخل جهة سيادية فى المنع مثلما وصفت فيلم «حلاوة روح» بالردىء، ولكنك قلت إن تدخل رئيس الوزراء بالمصادرة هو الأردأ، أجبته: أين هى الحرية هذه المرة؟
كنت وما زلت أرى أن اقتحام الخصوصية خط أحمر، وعندما نكتشف أن الدولة هى الفاعل الأصلى فهذا لا يعد عملا ليس فقط غير أخلاقى، ولكنه عمل عدوانى ضد الشعب. أعلم أن قطاعا وافرا من المواطنين إما أنه يكره فلانا أو علانا شخصيا، وإما أنه يتحفظ على ثورة 25 يناير ويرى أنها مؤامرة على مصر، فيجدّ فى فضح مكالمة ناشط سياسى فرصةً لتأكيد وجهة نظره الرافضة لهؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم نشطاء، وهو يراهم مرتزقة.
الكاتب الصحفى عبد الرحيم على يفضحهم على الملأ فى صندوقه الأسود، وقطاع من المصريين سعداء، كما أن الرغبة فى التلصص أحد عوامل الجذب، صحيح أننا جميعا ننكر على الملأ ذلك، ولكن ومع اختلاف الدرجة من الممكن أن يشعر البعض بلذّة ما فى اقتحام خصوصية الآخر بعيدا حتى عن الكراهية أو الحب، وعندما تجد أن من نفضح أستارهم لهم مساحة من النجومية يُصبح الرأى العام شغوفا أكثر ومستمتعا أكثر.
الكل يدرك أن عبد الرحيم على حصل على هذه التسجيلات من جهة أمنية رفيعة المستوى، وكانت قادرة على حمايته طوال العام الماضى، لأنها صاحبة مصلحة فى الهجوم على النشطاء السياسيين وفضح عدد من رموز الإخوان، كلها تصب فى صالح النظام، ولا أتصور أن عبد الرحيم عندما أذاع مكالمة ساويرس والبرادعى ما كان يعتقد إلا أنه يُقدم خدمة للنظام، ويشدّ أُذن أكبر رجل أعمال فى مصر، ويجبره على تسديد 3 مليارات جنيه لصندوق «تحيا مصر». أغلب الظن أن الجهة التى تتواصل مع عبد الرحيم ليست مطلقة اليد، فتدخلت جهة أخرى ليس فقط لوقف التسجيل ولكن لرفع البرنامج تماما من الخريطة، ولتشدّ هذه المرة أُذن عبد الرحيم.
المؤكد أنه ستعود تلك التسجيلات السوداء مرة أخرى بعد الوقف المؤقت، لتملأ الأثير، الأمر ليس له علاقة بعمل فنى حتى ولو كان رديئا فإننا نرفض مصادرته، ولكنه صراع داخل الدولة تقوده جهتان أمنيتان، لم أستطع أن أدافع عن مبدأ الحرية، أين هى الحرية فى كل ذلك؟