فررتُ من المكتب إلى الشارع، وعانق الأسفلت دمعى المسكوب، ودهسَتْ الكعوب الثقيلة دمعةً ساخنة راقبتها فى صمت تلتصق بكعب حذاء أسود.ومضيتُ فى هذا الصباح.
أعلنَتْ أن قصتنا فاشلة ويجب أن تنتهى.
وصرَّحَتْ أن الاستمرار ذنب وخطأ.
وأضافت أنها تعزّنى وتريدنى صديقًا ولا تريد أن تكره أيامى، أيامها، «أيامنا»، ولحظات ودّنا الطاهر وصوت المذياع الذى سمعناه معًا يغنّى عن الحب!
ومشيتُ فى هذا الصباح.
تقدمنا على حافة النهر المستباح للمراكب «الحقيقية والورقية» للصيادين، لبول الصغار، للشجر الشيطانى، لأحذية جنود الأمن المركزى، لصانعى الشاى الرخيص.. اقترب منا بائع الفُلّ، يحمل سُخْفَه فوق عناقيد الفل المربوطة بخيط هشّ.
- فل؟
تجاوزناه صامتين.. اقترب آخَر يحمل نفس العناقيد، تجاوزناه متجاهلين.. ألحّ ثالث فدفعَتْه بيدها متذمرة:
قلنا خلاص.
ثم خبّأت ابتسامتها فى صدر كتبى.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
أناملها مرتعشة تكتب بسن قلم أزرق مترنح أغنية أحبّتها لى.
ومضيت فى هذا الصباح.
وقفتْ أمام بائع الفطائر والحلوى، قدمتْ أوراقها المالية المطويّة فى كفّها.. التفتت إلىَّ مبتسمة ثم تناولتْ الفطائر فى الكيس الشفاف، امتدّت يدى فحملته عنها.. فأكملت ابتسامتها.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
سرنا فى الشارع الذى يعاين أفول الحركة اليومية وتساقط أبواب المحلات على أقفالها، واستيقاظ أنوار المصابيح المستضعَفة، ودعتنى إلى مشروبها المفضل. امتدت أصابعها ترفع «الشفاطة» إلى شفتيها وهى تزيح خصلات شعرها عن جبهتها.
ومضيتُ فى الصباح.
دفعتْنى بكفّها إلى الوراء وهى تهلل فرحةً، تصرخ:
أنا صحّ..
ثم تكمل دورة فرحها مازحة:
احفظ الشعر قبل أن تردده ولا تتشاجر معى حول صحة كلماته.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
فى منتصف المكالمة.. نظرت إلى الهاتف، لا أعرف ماذا حدث؟
كانت صامتة.
وأحببت صمتها الصارخ فى الهاتف.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
ما لك؟!
كانت تقولها.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
قصَّت علىَّ حكاية الولد الذى غازلها يوم عودتها من المدرسة، وقالت لى إنها كانت تنظر إلى الأرض طيلة الوقت حتى وصلت إلى شرفة منزلها ثم فتحتها لترى وقوف الولد على الناصية.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
اشتكت لى ثقل دم صاحبتها، سألتْها عنى واستفهمتْ عما بيننا.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
لأجل خاطرى لا تغضب.
وكنت لا أغضب.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
طلبتُ منها صورتها.. فاتسعتْ عيناها وأطرقتْ برأسها ووافقت.. ثم نسيَت.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
قفزة قلبى لما رآها، تفتُّق خلاياى، تدفُّق دمى، رعشة رئتى، ارتباك عيونى، تثبُّت قدمىَّ، اندفاعى نحوها، التصاقى بالهواء المحيط بها، احتضان قلبى لجسدها كله، لشعرها، لعينيها، لنقوش ردائها، لحزام حقيبتها، لخاتم يدها، لحليب بشرتها..
لا أرى سواها.. وكل الوجوه المحيطة محض خطوط.
لا أسمع غيرها.. كل الكلام بعدها خَرَسٌ.
أسلّمها نفسى.. وضمانها ابتسامتها.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
أنت المبتدأ والمنتهَى، لا أريد إلا القرب منك.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
أهدتنى قلمًا لأكتب به قصة.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
لما جلستْ على المقعد الخلفى جوارى فى سيارة الأجرة تبادلنا نظرة على جسر الهواء الفاصل بيننا.
تشاجرنا على مَن يدفع أجرة المشوار.
ومضيتُ فى هذا الصباح.
وقفنا عند ناصية شارعها.
- لا أريد أن أرحل.
قلتُ:
ولا أنا.
قالت:
لكنها راحت منى فى هذا الصباح.