الرواية التى تُقال الآن فى المحاكم عبر هواة الاستعراض المنفوخين بهواء تم استنشاقه من قبل كان يمكن أن تصبح روايات مهيمنة لو كنا وقت الملك والحاشية والقصر.. عندما كان إنتاج الروايات حكرا على جهاز الدولة.. الآن لا يمكن لاستعراضات الحواة أن تتحول إلى حقائق إلا لمن يريد تصديقها أو له مصلحة فى ترويجها أو على الأقل الغافل الذى ينتظر الرواية المنتصرة ليتبناها.
كان معروفا منذ يوم ١١ فبراير أن خريف مبارك لن يكون سهلا، فالسند الاجتماعى الذى تشكل فى عصره ومجموعات المصالح المرتبطة، ومن الشعب الذى وفَّق أوضاعه و«كبر دماغه» ليعيش على فتات العصابة الحاكمة.. تلك القطاعات التى خضعت لتربية عاطفية من هذا النوع احتفلوا فى يوم جمعة النصر (فبراير ٢٠١١) بسقوط مبارك الذى كانوا يخافون قبل أيام قليلة من رحيله عن قصر الرئاسة.
مبارك اختار من الأقزام، كهنته، وها هم يجتمعون فى أقفاص الجريمة بعد أن خرّبوا نفسية المصريين وأفقدوهم الثقة فى أن هذا الشعب يمكنه الخروج من شبكة العصابة التى تضخّم أقزامها بعد أكبر عملية تصحير للحياة السياسية.
نَمتْ أحجام الأقزام فى هذه الصحراء الشاسعة، وبدت المعارضة مجرد نباتات صحراوية، تبحث عن مياه جوفية، وتقاوم وحيدة، منفردة.
مبارك انتهى وفى القفص؟
مبارك لا يشعر بالندم على جريمته، على العكس شعر بالفضل على البلد، وانتظر «الامتنان.. والشكر.. والإحساس بالجميل»، الديكتاتور فى برجه يتعامل مع شعب افتراضى، والنظام تتحول مهمته إلى ترويض الشعب على مقاس خيال الساكن فى البرج.
خيال مبارك محدود، يرى العالم من ثقب باب كابينة فى سفينة غارقة، أحلامه لا تتعدى الطفو على الماء، ونظامه معدوم الكفاءة إلا فى ما يتعلق بالسيطرة والترويض.
مبارك أنقذ مصر من وجهة نظره، وتركها صحراء وسطها منتجعات، وفى قلبها برج عالٍ، تحميه أقزام بشهواتهم وقدرتهم على نشر الخوف والرعب، ليتصور الشعب أنهم آلهة، يحرّكون جيشا من الأرواح الشريرة.
مبارك حكم بخياله المريض، ليرى الشعب عبيدا لا يعترفون بالجميل ولا بخدماته.
الثورة انفجرت فى قلب صحراء بشكل ما، وكشفت عمق الكارثة.
نظام مبارك أقزام وليسوا آلهة، ولا سياسة فى مصر سوى جسارة كبرت إلى أن أصبحت «ثورة حياة أو موت».
غياب مبارك خلف ستار الغرفة المغلقة نتج عنه فراغ كبير عند عباد الديكتاتور وضحاياه، ويتعلقون الآن بمن يعدهم بالأمان.
روايات الحواة دفاعًا عن مبارك لا تشغل بال الباحثين عن الأمن لأنهم وكما روى سائق تاكسى لصديقى «مبارك كان فتوة أجبر الثعابين والأفاعى على دخول الجحور وثرواته التى حصل عليها هى فِردة الفتوة مقابل الحماية والأمن».. أصحاب هذه النظرة حتى لا يهتمون بروايات تبرئة مبارك وإنما بتجربة فتوة جديد..
وهذا يجعل الاهتمام المبالغ فيه بالاستعراضات المسرحية فى محاكمة مبارك بروجرام دعاية من شبكة مصالح العصابة البائسة التى تريد غسل سمعتها وإعادة تدوير نفسها فى الأسواق التى تظنها فارغة.