كان أكثر المتحمسين لموهبة صديقه عادل إمام وتنازل له عن « بهجت الأباصيرى» فى مدرسة المشاغبين
كان لا بد أن يتلقى رصاصة الغدر الطائشة فى ظهره، فيموت متأثرًا بالجراح، لينجو عادل إمام.. عدة مرات! مصير عفوى الموهوبة فى هذا البلد، هو التبخّر السريع ما لم يتحلّ بالحيلة وبعض اللؤم، فهو كالكحول خفيف نفّاذ الأثر والتوهّج، إذا تركته خارج زجاجة محكمة تحفظه تبدد إلى لا شىء. هذا طريق مسدود فى الواقع، إذ ينبغى على الفنان أن يتولى شؤون نفسه بنفسه ما دامت مؤسسات الدولة غارقة فى الغبار، ولم نصل بعد إلى صيغة عملية لكيان محدد يتعامل على أساسه (وكيل الفنان أو الكاتب) agent الموجود فى العالم كله، ليتحمل عن المبدع عبء كتابة العقود وحرج التفاهم مع الإنتاج وتضييع الوقت فى التفاصيل الهامشية، حتى يتفرغ الأخير لفنه، والمبدع بطبيعة الحال، مثل سعيد صالح، شديد الحساسية، وإن بدا مهرجًا، مرهف الطباع وإن أقنعك بفظاظته، لا يخلو من نزق مهما اتسم برباطة الجأش.
هكذا يتطاير النشاط الصادق المحموم بسرعة ويبقى الفنان الرصين الدؤوب العاقل بنتائج مدهشة لصالح الثانى. كان سعيد صالح من أوائل الذين تحمسوا لموهبة صديق شبابه، المشاغب الآخر، عادل إمام، وكان صالح قد بدأ اسمه يظهر على أفيشات الأفلام قبله، لكنه أحبه من القلب -كما فعل فى ما بعد مع أحمد ذكى، وفى ما بعد البعد مع محمد رمضان!- ورأى فيه توأمه الفنى ونصفه الآخر، لدرجة أنه قد تخلى له طواعية عن دور بهجت الأباصيرى عندما استمات إمام فى الحصول عليه، برغبة ذكية مبكّرة فى زعامة المشاغبين. ومع ذلك ما كان للعمل أن يتم وأن يكون له هذا التأثير المزلزل فى المسرح الكوميدى لولا مرسى الزناتى، وكلاهما تقاسم الزعامة بروح قلَّ أن تجدها فى هذا الزمان، سعيد يقذف الكرة ويتلقاها عادل، إمام يرمى الإفيه فيكمله صالح. واختصر المسألة عندما أخبره على خشبة المسرحية (أنا المخ وانت العضلات.. يعنى لو افترقنا، أبقى أنا ضعيف وانت حمار!) ترى إلى أى درجة كانت هذه العبارة صادقة؟!
يواصل سعيد صالح العناية بأخيه ماهر النمر (المشبوه) عندما بدأ يميل إلى حياة العزلة والاستقرار مع بطة (سعاد حسنى)، يلح عليه بحرارة لا تصدّق لأيام الشقاوة واللعب، وفى النهاية يفوز عادل إمام وتهبط التترات بعد أن يتلقى بيومى رصاصة لعينة لا يشعر بها، لكنه ينتبه للدم الدافئ الذى يتدفق منه بغزارة. اللعبة هى ما كانت تمتعه، ولا شىء آخر، ولا حتى ورق البنكنوت الذى حاول أن يأكله فلم يجد له طعمًا! وعادل إمام كما هو ولا يتغير، يعنى بشؤونه بلا مواربة، ويصارحه بقسمات (مرزوق الكوتش) الذكية المتحفظة: (صاحبى دراعى، وعمى قرشى) لكن سعيد صالح (بركات الدمنهورى) يصر على هذه الصداقة الحافلة بالمغامرات والصعلكة، يتقاسمان النجاح والرغد، حتى عندما ينوى الزواج من بطة (سوسن بدر هذه المرة) وعلى الرغم من تأكيد خوليو (محمد متولى) لعادل: «بطة مش ليك يا مرزوق!» تنتهى القصة بنفس الرصاصة، وينطلق إمام للثأر والفوز بالمرأة وبنهاية الفيلم، يهمس لقبر صاحبه: سلام يا صاحبى. مرة واحدة، لكن أصواتا كثيرة فى الخلفية تردد نفس السلام.. حتى الآن.
لكن عادل إمام يعرف أن الحياة لا تسير بمنطق الأفلام، فلم ينتقم لصاحبه، بل خذله مرارًا، المعلن منها والخفى، حتى عندما زجّوا بسعيد صالح فى السجن بتلفيق عدة اتهامات، أصدقها وأعجبها جملة قالها من تلقاء نفسه فى إحدى المسرحيات (أمى اتجوزت تلاتة، الأولانى أكلنا المش، والتانى علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش). بالطبع كان أحد كلاب الثالث مدسوسًا بين المشاهدين يتربّص، فقرروا إنهاء مستقبل الفنان البديع وجعله عبرة وجعلنا أضحوكة للعالم الحر، فهذه أول مرة فى التاريخ يزج بفنان فى السجن لخروجه على النص.
لم يعلق عادل إمام على هذه الملابسات وآثر السلامة وتظاهر بأنه من قُطر آخر، من هو ليتحدى النظام المفترس؟ فضلاً عن تملقه المستتر والمكشوف لهذا الكيان وأعوانه فى علاقة تبادل منفعة طويلة العمر، فلم يخرج على النص أبدًا. على أن السبب الأهم فى هذه القطيعة الفنية الإنسانية يتمثل فى خطة عادل إمام الممنهجة منذ بداية صعوده، فتخلص من أفلام الرفاق الثلاثة الفكاهية، ومن الثنائيات العاطفية، ثم من دويتو بركات الدمنهورى بسرعة، فهو كالفريك دائما وأبدا!
وبالتأكيد لا يعد انتباه عادل إمام لبناء مجده الخاص خيانة خالصة الشر تجاه سعيد صالح رفيق البدايات، على كل مخلوق أن يهتم بنفسه، فعاش سعيد حياة تلقائية لاهية، يقبل بكل العروض، ويفتخر بأن رصيده من الأفلام يمثل ثلث الإنتاج السينمائى المصرى بالكامل، أضف إليه مئات المسرحيات والمسلسلات والتمثيليات الإذاعية. وبينما كان عادل إمام ينتقى أعماله بعناية، سقط سعيد صالح فى الفخ الذى ابتلع سمير غانم والمحشو بما لا حصر له من أفلام المقاولات. الأول يفكر أكثر من مرة فى النجمة التى ستشاطره البطولة واسم المخرج وتأثير العمل ككل، والثانى يمرح مع سميرة صدقى ويرقص مع هيام طعمة ويغنى مع عدوية ويهرج مع يونس شلبى. تأمل موهبته الخارقة وهو يقف للأباصيرى الند للند، وهو يحمل على عاتقه روح الصورة الخالدة لعائلة رمضان السكرى، ثم وهو رمضان هذه المرة ليتفوق على كوميديان خطير مثل سمير غانم فى «محطة الأنس»، طاقة فنية هائلة وحضور فطرى فوق الرائع.. كل هذا كان يمكن أن نستفيد منه جميعًا بأعمال أخرى لا تتنازل عنها الذاكرة ولا يسقطها الوجدان الجمعى للجمهور.
هناك من يمثل أفضل من عادل إمام ومن يكتب أفضل من الأسوانى، لماذا استمر تامر حسنى واختفى محمد محيى؟ لا لوم على أحد، والبقاء للأصلح فى كل قانون، صلاحية تستمد شرعيتها من موهبة صاحبها ومن قدرته على حمايتها بالعقل والحكمة. وبالمناسبة كانت أغنية محيى (أنا حبيت وانجرح قلبى) هى بداية تعارفه بجمهوره وبداية شهرته الحقيقية. سمع محيى اللحن فى بداية التسعينيات فطلب من الشاعر سيد تمام أن يضع عليه الكلمات الملائمة، ثم جوّدها ملك القوافى عنتر هلال، وحملت اسمهما معًا فى الغلاف الداخلى للألبوم بدون ذكر اسم ملحنها الذى لم يكن سوى سعيد صالح نفسه! هذا ملمح آخر يذكرنا بفنان شامل انتهى سريعا، انتهى لأنه أكثر من فنان وأكثر مما نستوعبه من فنان واحد: هو منير مراد، لقد احترف سعيد صالح التلحين والغناء وكتابة الأشعار فى وقتٍ ما، واللحن سالف الذكر وضعه بنفسه فى مسرحيته (كعبلون) ليغنى عليه كلمات بيرم التونسى التالية (تذكر أغنية محيى فى بالك الآن ودندن معى): أنا اتلهيت وانخذل زندى.. وأنا لا عنتر ولا غاندى!
كلامنا عن السعيد الصالح لن يضيف لمحبته فى القلوب شيئًا، لكنها عادتنا الذميمة فى تذكر محاسن الناس عندما يموتون. ليهجروه فى مرضه، ويتعللوا بالحجج الفارغة هربًا من جنازته، فالذى طمع فيه (محفوظ أبو طاقية) فى «هاللو شلبى» ناله كاملا غير منقوص: حب الملايين والملايين. ليهنأ صديقه بمقعد الزعامة، لكن سعيد صالح يغمز له بعينه فى كل ثانية يضيف فيه مراهق ما فى مكان ما تعليقًا على الفيسبوك لا بد وأن يحمل صورة له فى «مدرسة المشاغبين» أو «العيال كبرت» أو «سلام يا صاحبى»، عدد الصور له وحده يتفوق على مجموع صور الباقين معًا بمن فيهم الأباصيرى شخصيا! وكلها تحمل مزحاته الشهيرة: كل حاجة سليمة بس لوحدها (عن حال البلد)- أنا مش هاضربه، أنا هافهمه غلطه بس (فعلوها معه بحبسه والتشهير به كى يتعلم احترام الأسياد)- أذاكر وأنجح.. الاتنين؟ (أيوه يا فنان كان لازم تذاكر عشان تنجح زى صاحبك)- أنا عندى استعداد للانحراف، بس مش لاقى اللى يوجهنى؟ أهو كله برتقال! (عن الفن وعن الناس وعن كل شىء فى الواقع!) ويرفض أن يتركنا إلا بعد أن تنتهى أيام العيد وفى اليوم التالى لعيد مولده، بسلامه الباسم (فوتُّكُم بعافية) لكنه لم يتركنا بعافية (سابنا عايشين بالعافية!).. الذين أسعدونا حفروا لأنفسم علامات بارزة فى كل قلب، وفى قاموسنا اليومى فى زمان جائر على كل ابتسامة شابة، رحم الله كل أولادك يا رمضان، أحمد زكى ويونس شلبى وسعيد صالح، وأطال الله فى عمرك وعمر أمهم. فى ما بعد سنشاهد العيال فى حوارهم الطويل الضاحك وجلاليبهم البيضاء الواسعة، نعرف أنهم بين يدى الرحمن فى السماء، فنراهم من جديد فى أثواب الملائكة!
ابتكر المصرى طقوسًا أقوى من التاريخ ومن الزمن ومن الشعائر الشعبية فى كل زمان ومكان، الفانوس والمسحراتى وأغانى رمضان التى لا يمكن استبدالها مهما تقدمت الأدوات والأصوات وأغنية صفاء أبو السعود للعيد وأقراص الطعمية والملوخية الناشفة، تدخل فى القائمة طقوس صباح أول أيام العيد: الشاى الساخن والكعك و«العيال كبرت»، وقد يمر العيد بلا كعك، لكنه من المستحيل أن يمضى دون مشاهدة «العيال كبرت»! مرسى الزناتى لم ينهزم يا رجالة!