الصديق العزيز إبراهيم عيسى يواجه حاليا واحدة من عواصف التخلف والتأخر والجهالة القاسية العاتية، تلك التى تعودناها وصارت منذ عقود خبزا يوميا مُرًّا ومسموما نأكله بالغصب، ويأكل هو فى عقولنا وأرواحنا وأخلاقنا أيضا، حتى استقر مجتمعنا فى قلب صورة كريهة مقيتة تغص بشتى صنوف ومظاهر البؤس والانحطاط.
وهل هناك بؤس وانحطاط أكثر سوءًا وجنونًا من أن يعربد غول التأخر والعدم بين ظهرانينا، مسلحا بشعارات ومقولات مغرقة فى ظلام الهمجية، لكنها منسوبة زورًا وبهتانًا للدين الحنيف، الذى تعرض على مدى عقود وسنين طويلة إلى عملية بهدلة مبرمجة وممنهجة ونشطة وواسعة النطاق، حوّلت أحكامه وقيمه الإنسانية الراقية السمحاء فى أذهان قطاع واسع من خلق الله، إلى شىء آخر قمىء يعطل التفكير وينهب نعمة العقل ويسوغ ويبرر التخريب والتقتيل والوحشية؟!
إنه لشىء مخجل حقا ويجلب أشد مشاعر العار وجعا وإيلاما، أن نتأمل فى السبب الذى أطلق عاصفة الإرهاب والتشهير التى يتعرض لها الصديق إبراهيم عيسى هذه الأيام، إذ إن التهمة المنسوبة إليه (وصدق أو لا تصدق) أنه أبلغ الناس باجتهادات فقهية معتبرة قال بها أئمة وعلماء كبار تنكر وجود هذا الكائن الخرافى المدعو «الثعبان الأقرع» فى القبر، كما تنكر وربما تستنكر القول الشائع بأن هذا الأقرع بالذات كلفه المولى عز وجل بتعذيب عباده العصاة، الذين يحل أجلهم بمجرد دفن جثثهم وقبل أى حساب!!
غير أن تلك العاصفة التشهيرية وهذه الحملة التخويفية الشعواء، كلتاهما ليست الخبر الأشد سوادًا وسوءًا، وإنما الأسود والأسوأ أن الأزهر الشريف وقع فى فخ الابتزاز الرخيص، ونجح حراس التأخر والتخلف فى استدراجه ودفعه دفعًا للمشاركة بقوة فى معركة «الثعبان» البائسة، وبات عيسى معروضا أمره على لجنة شكّلها الإمام الجليل الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر لكى تبحث وتتقصى ما إذا كان صاحبنا ارتكب فعلا «جريمة» جرى ابتكارها واختراعها على عجل، ألا وهى «إنكار المعلوم من الثعابين بالضرورة».. على شاكلة ووزن «إنكار المعلوم من الدين بالضرورة»!!!
وبعد.. فإن علامات التعجب الثلاث الأخيرة هى التعليق الوحيد الذى يستطيع العبد لله كاتب هذه السطور أن يبوح به علنًا، غير أننى سأستعين حالا بمقاطع من مقال قيم وثمين نشر أمس فى إحدى الصحف ممهورًا بتوقيع فضيلة الدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف، هذه المقاطع أظنها قولا فصلا وحاسما فى موضوع «الثعبان» وما يثيره من شجون وأحزان لا أول لها ولا آخر.. يقول فضيلته:
«.. إن الإقدام على التجديد فى القضايا الفقهية، والنظر فى المستجدات العصرية، وفى بعض القضايا القابلة للاجتهاد (أمر) يحتاج إلى رؤية ودراية وفهم عميق وشجاعة وجرأة محسوبة، وحسن تقدير للأمور فى آن واحد.. كما أنه يحتاج من صاحبه إلى إخلاص النية لله، بما يعينه على حسن الفهم وتحمل النقد والسهام اللاذعة، ممن أغلقوا باب الاجتهاد، وأقسموا جهد إيمانهم أن الأمة لم ولن تلد مجتهدًا بعد، وأنها عقمت عقمًا لا براء منه، متناسين أو متجاهلين أن الله عز وجل لم يخص بالعلم ولا بالفقه قومًا دون قوم، أو زمانا دون زمان، وأن الخير فى أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يوم القيامة».
ثم يمضى فضيلة الدكتور قائلا بالنص: «إن ما ثبت بدليل قطعى الثبوت والدلالة، وما أجمعت عليه الأمة وصار معلومًا من الدين بالضرورة، كأصول العقائد وفرائض الإسلام من وجوب الصلاة، والصيام، والزكاة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، كل ذلك لا مجال للخلاف فيه (أما مجال الاجتهاد) فهو كل حكم شرعى ليس فيه دليل قطعى».
انتهى الاقتباس مما كتبه فضيلة الدكتور مختار جمعة.. وأختم بالسؤال الآتى: هل «الثعبان الأقرع» يستند وجوده فى عقول بعضنا إلى دليل شرعى قطعى، وهل أجمعت عليه الأمة وصار معلومًا من الدين بالضرورة؟!!