الجدل الفكرى الذى لم يخل من وعى بالقدر الذى تسمح به اليفاعة العمرية
فى الأعوام القليلة التى دارت حول منتصف حقبة سبعينيات القرن الماضى، كانت الجامعات المصرية تمور وتفور بقدر مدهش من الصخب والحيوية السياسية «لكنه شىء مختلف بالمرة عن مشهد البلطجة والعربدة الإخوانية الحالى» قبل أن يشهد المجتمع كله بما فيه الجامعة، موجة قمع ونكوص حاد للخلف عصفت بالنبت الواهن لحريات التعبير الذى كان بالكاد يحاول النمو خلال المساحة الممتدة بين حرب أكتوبر ١٩٧٣ وزيارة الرئيس السادات المشؤومة للقدس المحتلة فى شهر نوفمبر ١٩٧٧.
فى هذه الفترة القصيرة التى تميزت بتسامح نسبى مع بعض حريات التعبير بدت الجامعات لوحة مفعمة بكل ألوان الطيف السياسى، إذ وجدت القوى والتيارات السياسية متنفَّسًا لها ومساحة ما للتعبير عن وجودها داخل أسوار الجامعة (جماعات الذين ينسبون أنفسهم للإسلام كانوا آنذاك رديفًا للأمن والمباحث) تعويضًا عن التقييد والتضييق والحرمان الذى كان سائدًا خارج هذه الأسوار.
فى تلك الأيام الغابرة كنت لا أزال طالبًا جامعيا لم يعبر بعد حاجز العشرين من عمره، وكنت فى قلب زخم تلك الحالة التى لم تنحصر مظاهرها وفاعلياتها ضمن حدود النشاط السياسى المباشر فقط (مجلات حائط ومؤتمرات سياسية ومسيرات وتظاهرات سلمية وغيرها) ولكنها امتدت أيضا إلى نوع من النشاط والجدل الفكرى الذى لم يخل من وعى وعمق بالقدر الذى تسمح به اليفاعة العمرية وقلة ومحدودية الخبرة.
وأذكر وقتها أن الطلاب الناصريين بالذات (كنت واحدًا منهم) كانوا يخوضون صراعا فكريا محتدما، بعضه يتعلق بالتشكيك فى المسمى نفسه أى «الناصرية»، لكن أغلبه كانت له علاقة مباشرة بحملة التشهير البذيئة وواسعة النطاق التى أطلقها نظام السادات وقوى اليمين عمومًا ضد تجربة عبد الناصر الثورية، تبريرًا للردة والانقلاب التام على أرقى وأهم وأعظم مبادئها وإنجازاتها الاجتماعية والوطنية.
كانت قضية علاقة الناصرية بالديمقراطية السياسية خصوصا، واحدة من أقوى وأشهر الذرائع والأسلحة المستخدمة وقتها (وربما حتى الآن) فى حملة التشهير تلك التى فى مواجهتها وجد الطلاب المنتمون للتيار الناصرى أنفسهم محشورين بين خيارين اثنين ليس لهما ثالث، فإما أن يستعينوا بآلة التبرير السهلة، أو يتجشموا عناء التأمل والتفكير فى موروث تجربة الزعيم الراحل (الذى مات وهم أطفال أو فتية صغار) لكى يصوغوا موقفا مبدئيا نقديا يستبقى ويحافظ على الجوهر الأصيل لتجربة وفكر عبد الناصر التقدمى والتحررى والنهضوى، ويعلن فى اللحظة نفسها عدم التزامه أو حتى براءته من ممارسات وشعارات عفا عليها الزمن أو لا يمكن ولا يجوز الدفاع عنه.
والحق أن الفقير إلى الله، كاتب هذه السطور «ومن دون ادعاء للحكمة بأثر رجعى» واحد من الذين حاولوا مغالبة ظروف الخبرة المحدودة والسن اليافع وجاهدت نفسى لكى أتسلح بشىء من الروح النقدية، وعليه فقد انهمكت مبكرًا فى عمليه تفكير وتأمل متجرد ومخلص فى بعض ما كان يقال آنذاك من باب التشهير، بشأن ما يبدو تناقضا بين بعض المقولات والشعارات المنسوبة للناصرية (وكثير من أدبيات تيارات الفكر اليسارى عموما) مع فكرة الحرية ومفهوم الديمقراطية، مثل ذلك الشعار المشهور الذى يقول منطوقه: إن «الحرية كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب».
هذا الشعار بالذات كان له معى قصة طريفة، اسمح لى أن أحكيها غدًا، إن شاء الله، مشفوعة بالمناسبة التى استدعت كل هذا الكلام.. وصباح الخير.