- حاجة غريبة والله.
كان أبى مائلاً بجذعه على السور الحديدى الفاصل بين صالة الانتظار وصالة الدخول التى تقود إلى وزن الحقائب ومراجعة جوازات السفر، كان يسأل الضابط ذا الشارب عن موعد الإذن بالدخول إلى الطائرة، أجابه مقتضبًا بينما انشغل بسيجارته وحديث صاحبه عن الالتفات لأبى، عاد نحو أمى. تقف واضعة كفيها تحت صدرها، ممسكة بكيس نقود أسود ومنديل مطوٍ على شكل مثلث.
- ما زال هناك وقت.
يدفع أخى عربة حمل الحقائب، وهو يجر حذاءه الرياضى فوق البلاط البارد المنبسط المربع فيحدث صوت التزحلق، نجلس على المقاعد البلاستيكية الحمراء، وجه أبى شاحب، تمسح أصابعه عرقًا وهميًّا فوق جبهته، تمر على جانب وجهه، يدلك ذقنه الحليق، يقبض على الصحيفة، يقرأ خبرًا صغيرًا فى الصفحة الأولى، إعلانًا مجاورًا، يبتسم ابتسامة مغتالة.
- تابعوا الصحيفة، يمكن نفوز بشهادة استثمار فى السحب القادم.
الصالة خالية فى الساعات الأخيرة من يوم يرحل بانتظام، فروع شركات الطيران مغلقة، رغم أضوائها المعلقة فوق المداخل، بائع الصحف يتسلم دفعة جديدة من صحف الصباح، طرية، مبللة، طازجة الطباعة. سيدة ريفية تدفس رأسها فى صدرها، تثنى ركبتيها وتنام فوق مقعدين متجاورين، يبحلق زوجها بعينين منسيتين فى الأسماء المرسومة على حقائبه. يجرى طفل صغير على أرض الصالة، يتوه عن مكان أمه، ينطلق فى صراخ مهترئ، تناديه أمه، لا يتوقف عن الصراخ.
موظف مكتب الأمانات أغلق المكتب الأرضى واختطف نومة على مقعده، بينما ترك نور الغرفة مفتوحًا، يدق أحدهم على زجاجه، يستيقظ من غفوته، يمرر اليد إلى المقبض، يفتح الباب، يرد على سؤال الرجل بإيماءة نائمة. عامل دورة المياه يجمع الأكواب البلاستيكية، يغسلها، يضع واحدًا فوق حوض الشرب، يغلق صنبورًا معطوبًا، يجر بمكنسته أوراقا مبللة فوق الأرض. ينام رجلان فى المسجد المفتوح تحت سلم صالة الانتظار، مفروش بالسجاد المصطنع، بلا سماء ولا سقف، يربط الرجلان رأسيهما بالمناديل القماشية، يضعان الأحذية تحت عنقيهما، يركنان جسديهما على الجدار، فوقهما لوحة قرآنية أهدتها إحدى الصحف لقرائها منذ زمن.
يدخل مسافر إلى مكتب الهاتف الضيق الخالى من الناس، يدق على رخام أمام شباك الموظف الغائب، يلتفت باحثًا عن أحد، يمسك بهاتف العملة المعدنية يجده خربًا، يضع السماعة، يعود إلى الشباك، يدق الزجاج والرخام، يضع رأسه فى فتحة الشباك.. وينادى.
كان الفجر يشاور -فى الخارج- الكون للحضور، حين دفع أخى عربة الحقائب لتتجاوز بوابة الصالة، يمسكها أبى، يطلب منِّى الانتظار حتى يزن الحقائب ويعود لكى يصافحنا، نتابعه، يدفع العربة فى غير استقامة، يدور برأسه فى المكان من حوله، نوافذ زجاجية، إعلانات ضوئية، لوحات الوصول والإقلاع، طوابير المسافرين وكتل الحقائب، قبعات رجال الشرطة، الأضواء ناصعة البياض، جوازات السفر فى الأكف، وتحت الأكتاف، فى الحقائب الصغيرة، تأبى العربة التحرك، يضع أبى حقيبة اليد الصغيرة فوق الحقائب، يحاول بكلتا يديه أن يحرك العربة.