قبل أقل قليلًا من ثلاث سنوات كتب العبد لله فى هذا المكان عن حركة احتجاج اجتماعى شعبية وعفوية تفجَّرت وقتها فى الولايات المتحدة الأمريكية، وتمكَّنت بسرعة من التنامى والانتشار فى أرجاء البلاد إلى درجة أجبرت الرئيس باراك أوباما على الكف عن تجاهلها، والتعليق علنًا على مطالبها المنصبة على ضرورة إحداث تغيير جذرى فى منظومة الرأسمالية المتوحشة الاقتصادية والمالية، تلك التى أشاعت البؤس والعوز بين قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكى، وراكمت ثروات خرافية فى كروش حفنة لا تتعدّى نسبتها أقل من واحد فى المئة من السكان صارت تختلس نحو 40 فى المئة من ثروة بلد فاحش الإمكانيات.
وأشرت إلى أن تلك الحركة الاحتجاجية التى تعد الأكبر والأشد فى تاريخ أمريكا المعاصر منذ حركة الحقوق المدنية للأمريكيين السود فى ستينيات القرن الماضى، استلهمت نماذج الثورات الشعبية العربية عمومًا وثورة 25 يناير المصرية بالذات، إذ قام المحتجون وهم خليط من مواطنين بسطاء وطلاب وأساتذة جامعات ومثقفين وأدباء وفنانين (يتزعمهم المخرج مايكل مور) ونقابيون وغيرهم، باتباع «التكتيك» نفسه الذى أبدعه المصريون، ألا وهو التمركز والاعتصام الدائم فى ميدان التحرير بالقاهرة، وصنع ميادين تحرير أخرى فى باقى مدن الوطن، وقد قلَّد الأمريكيون المنتفضون هذا النموذج بحذافيره عندما أطلقوا من على شبكة الإنترنت كما شباب مصر، شعار «هيا بنا نحتل وول ستريت» أى حى المال والأعمال النيويوركى الأشهر، وبالفعل نفَّذوا شعارهم وأقاموا معسكرًا دائمًا فى «ساحة زوكوتى» بقلب الحى، وفورًا أطلقوا عليها اسم «ميدان التحرير».. ثم سرعان ما انتشرت «ميادين تحرير» أخرى مماثلة فى عدد كبير من الولايات والمدن الأمريكية.
غير أن صدى هذه الهبة الشعبية الأمريكية المحتجة على الاستغلال والتوحّش ولا إنسانية النظام المالى والاقتصادى بل والسياسى السائد والمتحكم فى عالمنا الراهن، انتقل فجأة وبسرعة هائلة إلى مناطق عديدة من الكوكب، حيث انتشرت شعارات المحتجين المعتصمين فى «ساحة تحرير نيويورك» وشاعت و«تعولمت» وعبرت حدود قارات الأرض الست، ورفعها مئات الألوف بل ملايين من البشر خرجوا آنذاك فى تظاهرات عارمة امتدت من واشنطن ونيويورك وباريس ومدريد وبرلين ولندن وروما غربًا إلى طوكيو ومانيلا شرقًا إلى سيدنى جنوبًا، ولم يغب نموذج «الميدان القاهرى» العتيد عن أحلام ومخيلة هؤلاء جميعًا سواء فى ما يخص استخدام «تقنية» التمركز والاعتصام فى ساحات بعينها، أو حتى ترجمة بعض شعارات ثورة 25 يناير قبل أن تنشلها عصابة الشر الإخوانية (حرية، عدالة، كرامة إنسانية) إلى كل لغات الدنيا، وإلى مطالبات لم يخل بعضها من طرافة مثل مطلب المتظاهرين فى بريطانيا بفرض ضريبة على الأثرياء والمتخمين سمّوها «ضريبة روبن هود» ذلك اللص الشريف الذى كان يسطو على ثروات الأغنياء ويعطيها للفقراء والبائسين المعدمين، حسب حكايات الفلكلور الشعبى الإنجليزى الموروث من العصور الوسطى.
أكثر من ذلك.. فإن كتلًا بشرية هائلة راحت فى خضم هذه الهبة تهدر وتشق حناجرها فى شوارع نيويورك وواشنطن ولندن وباريس وبرشلونة، بهتاف موحّد هو «أزيلوا احتلال فلسطين»؟!
لقد حضرت فى مشهد تظاهرات وانتفاضات شعوب الأرض أيامها، يوم كل الأحلام والمبادئ السامية والقضايا والمطالب الإنسانية العادلة، من إنهاء الاستغلال ووقف حروب العدوان إلى تحرير فلسطين، لكننا نحن أصحاب «النموذج» الثورى الباهر والملهم كنا قد بدأنا نتراجع ونتعثّر ونغرق فى «الفتن» والفوضى وقلة عقل وانخفاض وعى نسبة لا يستهان بها من شبابنا الحالم، وهو أمر سهل بغير شك مهمة عصابة تكره وتعادى كل أحلامنا فى التطوُّر فى نشل ثورتنا، وكادت أن تسرق مستقبلنا كله لولا أن الكتلة الحرجة والأكبر من شعبنا تدخَّلت فى الوقت المناسب وانتزعت الدولة من براثن هذه العصابة.. ولكن بثمن باهظ دفعناه وما زلنا ندفعه حتى الساعة.. لقد خَفت للأسف ضوء «نموذجنا» الباهر لأسباب ومعطيات يطول شرحها.
و.. كل عام وأنتم والوطن بخير.