هل بلغ بنا سوء الحال والمآل حتى أصبحنا الآن نتحسَّر على أيامٍ خوالٍ كنا فيها نتحسَّر ونحزن ويعتصر الألم قلوبنا لأن حكامنا ونظامهم العربى الرسمى التعبان بكل مكوناته (وكل إنفاقه الخرافى على شراء السلاح الأمريكى وتكديسه) لا يفعل شيئًا فى مواجهة جرائم العدو الصهيونى وعربداته المجنونة فى أراضينا ومقدساتنا وأجساد أهلنا وتنافس أو تفوق أبشع وأحط ممارسات النازية، سوى الكلام اللزج وعبارات الشجب والإدانة البليدة؟ ثم كان الله بالسر عليمًا.
طبعًا، معلوم وواضح أننى أسأل بينما أنا وأنت نعرف الإجابة ونكابد مرارتها فعلًا، إذ يتثاقل ويسود من حولنا صمت القبور تجاه تلك المحرقة الجديدة الرهيبة التى يشعلها العدو منذ ثلاثة أسابيع على أرض غزة صاعدًا بها كل ساعة إلى أعلى سماوات الوحشية والإيغال فى الدم والإبادة والتخريب.. كل هذا والألسنة الرسمية خرساء مقطوعة تمامًا لا يحركها أو يستثيرها ذلك الفيض الهائل من الصور المصلوبة على الشاشات تنقل لعيون الدنيا (على الهواء مباشرة) مشاهد أجساد أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا وهى معجونة بالحجر والشجر والتراب.
هل كان يرد أو يمر بأسوأ كوابيسنا أن يسقط من بين أيادينا حتى سلاح الكلام الفارغ، وأن تأتى علينا ساعة سوداء نعانى فيها من شلل اللغة، تلك التى لطالما امتعضنا من بؤسها وشكونا من دلالة العجز التليد الراقد فى أحشائها وأشبعناها شتمًا ولومًا وهجاءً؟!
ومع ذلك أصارحكم أننى صرت أخشى أن الكلام الذى أضحى نادرًا ضنينًا لو قاوم وغالب الخرس أن يأتى أسوأ وأحط من الصمت.. يعنى ببساطة أنا والله مرعوب أن تنطق أبواقنا الرسمية البكماء الآن فلا تدين أو تستنكر إجرام العدو بل تؤيده وتمدحه وتشجّعه وتطلب المزيد.. ألم يحدث هذا العار فعلًا ورأينا وسمعنا بعض المنحطين الذين ينافس موت ضمائرهم خراب عقولهم وتشوّه أرواحهم وانعدام أخلاقهم، وهم يجاهرون علنًا بفحش التضامن مع العدو القاتل وتثمين أفعاله الخسيسة وارتكاباته النكراء الوحشية بحق أهلنا العُزَّل فى قطاع غزة.
إذن، لا غرو ولا يدعو لأى عجب، أن الانكتام والخرس فى حالتنا الراهنة، ربما أفضل من كلام داعر قد ينحط ويهبط بنا إلى أعماق أبعد وأوطى بمستنقع أوحال العار والشنار الذى نتخبَّط فيه حاليًّا..
وبمناسبة كلمة «الغرو» التى زيّن بها العبد الفقير إلى الله الفقرة السابقة، فإن جبران خليل جبران، قال ذات مرة:
لا غرو أن الماس أكر
حقا عليك لكل حلف شقاء
ومن الكياسة وهو أصب جوهر
أن رق رقة أدمع الفقراء
فأصاب فَتَنَتك عندك والشفاعة لاسمه
حظ اليتيم وفاز بالإيواء
أما أبو فراس الحمدانى فقد أنشد عن «الغرو» نفسه قائلًا:
لا غرو إن باللحظات فَاتِرةُ الجفونِ
فمصارعُ العشاق ما بين الفتور إلى الفتونِ
أصبر، فمن سُنن الهوى صبر الظنينِ (المتهم) على الظنينِ
و.. أخيرًا، فإن الصبر على البلاء واجب، كما «لا غرو» أن الصبر نفسه تعب من صبرنا وربما مات كمدًا ويأسًا من حالتنا التى تتأخَّر وتتعفَّن يومًا بعد يوم.