عندما أفلتت هفوة من جون كيرى قبل أسابيع وقال: إسرائيل عنصرية.
كتبتُ يومها متعجبا: لماذا لم يجد كيرى مَن يسانده من المصريين والعرب من الذين تنتفخ عروقهم كلما جاءت سيرة فلسطين.. وتصيبهم عواطف شرخ الحنجرة تحذيرًا من المؤامرة الكبرى التى تبتلعنا يوميا من تدبير إسرائيل؟!
وفسرتُ الأمر وقتها بأن وزير الخارجية الأمريكى حاصرته اللعنة وقتها.. لأنه كشف بهفوة فرويدية ما يراد نسيانه فى قضية «وجود إسرائيل».
واضطر إلى الاعتذار دون أن يثير وقفة تأمل لما حدث فى 66 عاما تحولت فيها إسرائيل من «كيان عنصرى» إلى دولة فى حرب تقوم على أسس قومية أو دينية.. كيف حدث هذا التحول؟ كيف أُفرغت القضية الفلسطينية من محتواها المقاوم للاستعمار والعنصرية والتوسع إلى حرب «صلاح الدين» جديدة لتحرير الأمة العربية أو حرب هرمجدون بين المسلمين واليهود؟
وسألت يومها: كيف اختُزلت حرب تحرير فلسطين وهى حرب إنسانية/ تهدف إلى التحرر من كل قوى استعمارية/ عنصرية/ توسعية.. إلى حرب تستخدمها أنظمة وتيارات تخوض حرب هويات فاشلة؟
لم يعد يهم أحد من مستخدمى إسرائيل كورقة.. أن يفضح عنصرية إسرائيل.. لأن العنصرى لا يفضح العنصرية ولو كانت من عدوه. فلم يبقَ من فلسطين إلا لطميات ومزايدات وسوق فارغة بعد سقوط شعاراتها.. فالدول والتيارات والأحزاب والأيديولوجيات «سوَّقت» وجودها باسم فلسطين. ولم تبْنِ دولا ولا كيانات ولا اجتماعا يقف فى مواجهة الاستيطان أو الاجتياح أو العدالة. فلسطين كانت عنصرا أساسيا فى معادلة بناء كيانات السلطة (الحاكمة وقرينتها المنتظرة لتحكم). ومن كونها معركة «المصير» إلى المعبر إلى دولة «الإسلام»، ومن «القدس رمز التحرر..» إلى «الأقصى مبتغاى ومقصدى..».
العنصرية باقية فى حرب إبادة ممنهجة ضد شعب كامل/ وفى نشرها ليبدو الفلسطينيون شعبا ملعونا بلعنة «حماس»../ والعنصرية هى ما تبقى من قومية سلطوية تريد أن يشرب الناس مفاهيم الوحدة العربية باعتبارها بطولة وفروسية (يمثلها صلاح الدين..) وترتبط باسم الحاكم أو بوجوده على كرسى الحكم.. وفى هذه الصورة فإنه لا تعيش الأنظمة فى مصر إلا عبر إغراق الوعى العام بحديث عن مؤامرات إسرائيلية لا تتوقف.. وفى نفس الوقت يسمون التنسيق مع إسرائيل حكمة.. وعقلانية.
والسؤال انحسر من بناء ثقافة ووعى ورؤية تهدف إلى تحرير الناس من الفكر الصهيونى وسيادة الخرافات إلى سؤال صغير بعنوان: هل تكره إسرائيل؟
الإجابة الغالبة تكون: بالتأكيد.
لكنك إذا سألته: لماذا؟
فالإجابة الغالبة أيضا ستكون خليطًا من خرافات وأساطير الأنظمة والتيارات التى تلعب لعبة الهويات.. هذه الخرافات تشغل الجزء الأكبر من العقل بعد تحويله إلى «مخزن كليشيهات» يستعيض بها عن التفكير.. وتكوين تصورات للحياة والإنسانية.
ولهذا ستجد من يهتفون ضد إسرائيل (عدوة العرب والإسلام) بينما يتحالفون مع مواقفها من قبيل الأمر الواقع.. أو من قبيل أن المشكلة فى أبناء القبيلة (الفلسطينى باع أرضه/ والعرب خونة/ وحماس قتلتنا).. وهذه الخرافات تمثل التهتك الأخير لشعارات قادت الصراع من أجل تحرير فلسطين فى السنوات الأخيرة.
هذا التهتك وراء انتشار ما يمكن تسميته «مزاج عام ضد غزة..» لأن المواطن الذى يتربى على أن إسرائيل مجرد عدوة قومية أو دينية.. لن يفكر طويلا إذا اخترعت له عدوا جديدا وسيفاضل: العدو الأقرب أولى بالكراهية.. وهنا ستتلخص فلسطين فى غزة وغزة فى حماس التى شاركت الإخوان فى «الحرب» على مصر.
هذه أفكار تمنع التفكير وتمرر التناقضات بسهولة الماء.. وتفلسف الهزيمة الإنسانية قبل العسكرية.
الأمل إذن فى نمو قوة اجتماعية وسياسية تتبنى خطابا يرفض العنصرية والفاشية والاستيطان والتوسع/ ضد قبول الاحتلال من أساسه كطبيعة دولة مقامة على أرض مسروقة/ أو دول تحتل شعوبها.
فالحرب مع إسرائيل ليست مجرد مواجهات عسكرية.. أو بطولات حناجر.. إنها مفهوم كامل للحياة والإنسانية.. وهذا ما يغيب حتى الآن أو يُنفَى إلى الهامش تحت هدير شعارات هوياتية فارغة.