تملك السلطة عديدًا من الوسائل لإثبات أنها دولة ديمقراطية وكما يقول الكتالوج، بينما هى فى الواقع تمارس القمع كما يقول الكتالوج. من السهل جدًّا أن تخنق الثقافة وتمارس عليها الرقابة بأيدى المثقفين أنفسهم، وأن تفرض القيود تبعًا لقناعتهم وإرادتهم، وهذا هو ما أرى حاليًّا بوادره فى الكثير من البيانات التى صدرت وخصوصًا المجلس الأعلى للثقافة، كما أن هناك عديدًا من اللجان التى يتم تشكيلها وبعناية ويتم اختيار القسط الوافر من أعضائها من أصحاب نظرية «اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى».
سوف أنعش ذاكرتكم بواحدة من الحكايات القديمة. قبل أكثر من عشرين عامًا كان جناح نافذ فى الدولة غاضبًا من فيلم «ناجى العلى»، ومؤسسة «أخبار اليوم» عقدت العزم على إقصائه ومحوه من الحياة ووضعت كل من شارك فى تنفيذه داخل القائمة السوداء، فلا تنشر أى مطبوعة تابعة للدار أخبارهم. ويجب ملاحظة أنه فى عام 1992 لم نكن قد دخلنا بعد فى زمن الفضائيات ولا الانتشار الصحفى والإلكترونى عبر المواقع الذى نراه حاليا، وعندما تصدر مؤسسة كبرى هذا القرار فهذا يعنى شروعًا فى الاختناق. ووقفتُ على الجانب الآخر ومن خلال نقابة الصحفيين عندما كُنت مسؤولاً عن نشاط نادى السينما، عرضت الفيلم ودافعت عن حقه وأقمت ندوة شارك فيها المخرج الراحل عاطف الطيب وبطل الفيلم نور الشريف والكاتب بشير الديك والمصور محسن أحمد.
كانت الدولة فى تلك الأثناء تقيم مهرجانها القومى للسينما وكل الشروط منطبقة على الفيلم للاشتراك، فماذا تفعل؟ بسيطة، شكِّلت لجنة من نقاد وسينمائيين لا تشوبهم شائبة، كلهم من الكبار وأصحاب القامات العالية، ولكن كان يجمعهم شىء واحد وهو أنهم لأسباب -جزء كبير منها شخصى- يرفضون نور أو الطيب أو بطبعهم يقرؤون ما الذى تريده الدولة ويزايدون عليها. أقرّت اللجنة وقتها بالإجماع أن الفيلم لا يرقى إلى المشاركة فى المهرجان. نعم، كانت الأسباب المعلنة فنية وليست سياسية. بالمناسبة، لم يكن «ناجى العلى» هو أفضل ما قدم الطيب ولكنه بالتأكيد يرقى فنيا إلى المشاركة فى المهرجان ويستحق أكثر من جائزة.
تستطيع الدولة دائما أن تنتصر لنفسها مستغلة المثقفين وتتخذ قرارات قمعية من خلال استقطاب هؤلاء الذين يفرحون بعضوية اللجان من أجل فرض وجهة نظرها، وليست كلها مصادرة. التكريم أيضا الذى تمنحه الدولة تتدخل فى توجيهه. أتذكر أنهم مرة أرادوا أن يمنحوا عادل إمام جائزة أفضل ممثل تحية له على مواقفه فى أفلامه ضد الإرهاب والتطرف الدينى. بسيطة، شكّلوا لجنة كل أعضائها لو قال عادل إمام «ريّان يا فِجْل» سوف يهتفون «عظمة على عظمة يا زعيم».
من المذنب فى تلك المعادلة؟ إنه المثقف الذى تعوّد أن ينتظر ما الذى تمنحه له الدولة فينفّذ ما تريده. مؤخرا أصدر المجلس الأعلى للثقافة بيانا جاء فى فقرته الأخيرة: «ومع إيمان المجلس الأعلى للثقافة بحرية التعبير وعدم جدوى الرقابة المسبقة فإن المجلس يرصد بقلق التجاوزات التى يقع فيها بعض صُناع الدراما لعدم الالتزام بالوقائع التاريخية الموثقة وتقديم صورة مشوهة لأخلاقيات المجتمع، ويدعو مؤسسات الدولة للقيام بمسؤوليتها فى مراعاة الإفادة من خبراء التاريخ ووضع ميثاق الشرف المهنى الذى تجب مراعاته للحفاظ على قيم المواطنة وإبراز الجوانب الإيجابية فى الحياة المصرية».
وهكذا يمزج المجلس الأعلى الذى يرأسه وزير الثقافة بين الأخطاء التاريخية فى المسلسلات والتى لا يختلف عليها أحد، بينما هو يرمى فى الحقيقة إلى تشديد الرقابة. وجابر عصفور يعلم أن مفتاح بقائه داخل الدولة مرهون بالولاء والخضوع المطلق، وتذكروا فقط أنه عندما أعلن أنه سيعرض فيلم «نوح» رغم اعتراض الأزهر طلب منه محلب الاعتذار فذهب إلى الإمام الأكبر مبديًا ندمه، ولم يكرر بعدها تصريحه بعرض «نوح». وعندما طلب منه التدخل ضد المسلسلات المعروضة فى رمضان قرر أن يدس السم فى العسل ووضع هذا البيان الحلمنتيشى!!