ختمت سطور الأمس بإشارة إلى أن بوادر تشقق فى استراتيجية اللجوء دائمًا للقوة الساحقة الماحقة المتوحشة، أو «الخيار شمشون»، الذى يستسهله العدو الصهيونى، هذه البوادر كانت لها علاقة بمعطيات أفرزتها خريطة سياسية إقليمية معقدة ومضطربة وفرت لبعض القوى (أهمها حزب الله اللبنانى) فى العقدين الأخيرين فرص الحصول على دعم سياسى ومادى كبير وتسليح نوعى إيرانى مؤثر وثقيل نسبيا، كان من شأنه أن يلحق شيئا من الأذى بالعدو، لكنى استدركت وقلت: إن هذا الخيار هو أصلا وفى الأساس يحمل فى داخله عوامل وأسباب لا معقوليته، ومن ثمَّ فإن الاعتماد الأبدى عليه أمر شبه مستحيل.. وهى حقيقة تأكدت فى الماضى القريب، ويبدو أن تطورات العدوان الهمجى الدائر الآن على أرض قطاع غزة، سوف تعيد تأكيدها وتجسيدها.
واليوم أكمل بأن «شمشون» الصهيونى لم يعد يثير ذلك القدر الكبير من الخوف والإرعاب (أو الردع القوى) الذى من أجله (ولأسباب تتعلق أيضا بأساطير وخرافات توراتية) قبض العدو عليه وأدمن الاستعانة به.. أما أسباب هذا التراجع فكثيرة ومعقدة، إذ هناك دائما تلك الحقيقة العلمية والتاريخية التى عادة ما تتجاهلها قوى العدوان والعنصرية بتأثير الغرور، وخلاصتها أن الفحش المجنون فى استعمال القوة يؤدى على المديين المتوسط والبعيد إلى نتائج عكسية، فهو يستنفر المزيد من طاقة الغضب والتحدى فى نفوس الشعوب المقهورة، ويلهمها ويحرضها على إبداع وسائل وأدوات مبتكرة فى المقاومة، ورد شىء من الأذى إلى صدر العدو.. وهذا ما حدث بالضبط لشعبنا العربى الفلسطينى، عندما ابتكر فى العقد الأخير من القرن الماضى «المقاومة بحجارة الطريق»، وأشعل انتفاضة جبارة وعظيمة استقرت بهذا الاسم فى كل لغات الدنيا، ونجح بها فى تمريغ أنف هذا العدو المتوحش والمسلح حتى الأسنان فى العار الرغام، وأسكنه نهائيا عند الإنسانية جمعاء فى صورته الكريهة الحقيقية، أى كيان عنصرى عدوانى ينافس النازية فى الهمجية والإجرام.
غير أن مظاهر اهتزاز عرش «الخيار الشمشونى» وفقدانه أغلب ميزاته تتجلى حاليا فى تلك الصواريخ التى تنهمر على عمق كيان العدو ومدن بعيدة بعشرات أو مئات الكيلومترات عن قطاع غزة، حيث تنطلق.. صحيح أنها صواريخ بدائية ذات قوة تدميرية بائسة ومحدودة، فضلا عن أنها مصابة بعمى توجيهى شبه تام يجعلها غالبا تسقط وتنفجر بعيدا عن أى هدف، لكنها -مع ذلك- أثبتت قدرة على إثارة قدر معقول من الفزع والرعب فى قلب مجتمع هش معبأ بالحقد، وتعوَّد على تصدير العنف والعدوان والوحشية من دون أن يتكبد أى كلفة، كما أثبتت هذه الصواريخ أن بإمكان الضحية تكبيد الجانى أكلافا مادية محدودة، بيد أنها بالتراكم وإذا طال زمن المواجهة قد تكون سببا فى أضرار وخسائر اقتصادية مؤلمة وموجعة.
يبقى أن المثير حقا فى هذا الموضوع هو تلك المفارقة المدهشة المتمثلة فى أن إشاعة أوضاع غير مسبوقة من الخراب والاضطراب وشتى مظاهر الفوضى فى المنطقة المحيطة بفلسطين المحتلة (خصوصا سوريا والعراق)، رغم أنه أمر يحظى بالرضا والغبطة وربما نوع من الرعاية الأمريكية، فضلا عن ارتياح إسرائيلى واضح ومفهوم، فإن هذه الأوضاع نفسها فتحت ثغرة لا يمكن تجاهلها ولا سدها مرت منها إمكانيات تسليحية غير عادية، تدفقت على جماعات عديدة فى فلسطين، هذه الإمكانيات نراها الآن، وهى تصيب مباشرة قلب خيار القوة الشمشونية للعدو، وتضع هذا الأخير أمام الحقيقة التى يعافر بحماقة لكى ينساها ويتجاهل وجودها، ألا وهى أن لكل فعل إجرامى رد فعل حتما، كما أن إجرامًا من النوع الشائع الآن فى سوريا تحديدا من شأنه إثارة تفاعلات هائلة، ليس بالإمكان السيطرة عليها كلها ولا منع أو الوقاية من بعض ما قد تنتجه من معطيات، سوف ترتد إلى صدر المجرم نفسه، من حيث لا يدرى ولا يتوقع.