كتبت هنا أول من أمس أن ثقافة الاستسلام للعدو التى طالت لنحو أربعة عقود حتى الآن وشبعنا فى ظلها مهانة وضياعا وهزائم وكوارث من كل لون، تأسست على مقولتين فاسدتين اثنتين، أولاهما أن الطريق الوحيد للمقاومة هو حرب الجيوش النظامية وهو أمر شبه مستحيل بسبب عجز وضعف الآلة الحربية العربية مقارنة بالآلة الأمريكية التى يملكها العدو، فضلا عن أن الحرب سوف تعطل وتعوق خطط التنمية فى بلادنا.. هكذا يقول حراس الهزيمة!
وقد أشرت فى المقال السابق إلى ثلاث حقائق تفضح الفساد والكذب الراقد فى المقولتين المذكورتين، لكن المساحة تآكلت وضاقت فاضطررت إلى التوقف بعد الحقيقة الثانية، واليوم أكمل بأن حجة الخوف على التنمية هى أكذوبة تحلق فى أعلى سماوات المسخرة، إذ إن الحقيقة التى تخزق عين الأعمى أنه فى ظل الالتزام الصارم بسياسة «العملية» وخيار الاستسلام والتنازلات المجانية للعدو الصهيونى على مدى أكثر من ثلاثة عقود كاملة، تراجعت معدلات النمو فى الغالبية الساحقة من أقطارنا وتفاقم البؤس والتأخر فى مجتمعاتنا حتى لامس الحضيض شخصيا، وتكفى هنا مجرد إشارة إلى أن دول أمتنا (بما فيها النفطية) أضحت مصنفة لدى البنك الدولى باعتبارها ضمن الشريحة العليا للبلدان الأقل دخلا، أو فى أفضل الأحوال، فى الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، لكنها الأعلى فى معدلات البطالة.
إذن.. تحت سقف هذه المعطيات والحقائق، ومع افتراض أن تغييرها عن طريق الخلاص من عدو الداخل الرابض على أنفاسنا، أمر ليس متوقعا بلوغه فى المدى المنظور.. ما الحل الواقعى الذى يضمن عدم الضياع النهائى لحقوقنا ومقدساتنا فى فلسطين ويكفل بقاء الحدود الدنيا من خطوط الدفاع صلبة ومتماسكة؟!
قلت من قبل إن هناك حلا مرحليا وحيدا، هو ببساطة الإعلان الفورى عن حل هذه «السلطة» المزعومة التى تحمى وتجمّل جرائم الاغتصاب وينشغل بمغانمها الأشاوس الحمساويون فى غزة ومنافسوهم فى الضفة الغربية.
باختصار، الحل هو تفكيك وحل «مشروع الاحتلال منخفض التكاليف» الذى أفرزته اتفاقيات «أوسلو» المشؤومة، وإذا حدث ذلك فسوف يكون هناك خياران اثنان، أحدهما يمثل الحد الأقصى فى هذه المرحلة، والثانى هو أضعف الإيمان فحسب.
الخيار الأول هو اشتعال المقاومة الشعبية بكل صورها فى وجه الاحتلال، بينما هو عارٍ تماما من الديكور الحالى، والثانى أن نترك «أرحام الأمهات» الفلسطينيات تقاوم وتحفظ القضية إلى أن نُشفَى من عجزنا.. كيف؟!
إن أسوأ احتمالات الخطر الوجودى الذى يتحسب له العدو ويخشاه بوصفه كيانا عنصريا اغتصابيا، هو ما يسمونه فى أدبيات الفكر الاستراتيجى الصهيونى «الخطر الديموجرافى» أو التزايد السكانى للعرب الفلسطينيين الصامدين على أرض الوطن، ولكى تعرف عزيزى القارئ مدى جدية هذا الخطر وفاعلية سلاح «الأرحام»، دعنى أختم بالأرقام الآتية:
طبقا للإحصاءات الرسمية الإسرائيلية والفلسطينية فإن عدد المقيمين حاليا على أرض فلسطين التاريخية نحو 11 مليون نسمة نصفهم من اليهود (أو ممن يدّعون اليهودية) والنصف الثانى من العرب الفلسطينيين.
كما أن أكثر ما يخلع قلوب المخططين الاستراتيجيين فى الكيان الصهيونى أن معدلات الزيادة الطبيعية والولادات فى أوساط اليهود لا تتعدى ١٫٦٪، مقابل ضِعف هذه النسبة (أو أكثر) عند السكان العرب، سواء فى الأراضى المحتلة عام 1948 أو فى الضفة والقطاع، وهو أمر يجعل التفوق السكانى العربى منظورًا ومتوقعًا فى الأمد القريب جدًّا.. فإذا أضفنا 5 ملايين لاجئ فلسطينى يقيمون حاليا فى الشتات، ولو علمنا أن عدد كل يهود العالم حاليا يكاد يقترب من عدد الفلسطينيين، فسنقتنع فورًا بأن الحل ربما يكون فى أن «أرحام الأمهات».. أكرم وأرحم.