خلاصة ما قلته أمس: إن أى حرب فى الدنيا هى بالأساس سياسة وليست مجرد قوة خام عارية، وإن من بيدهم أمر إدارة البلاد بعد نجاح ثورة 30 يونيو أهملوا أو أسقطوا من أيادينا تدريجيا أهم وأخطر سلاحين نحتاج إليهما لكى نتمكن بسرعة وبكلفة أقل من تحقيق النصر الحتمى فى الحرب الإرهابية القذرة التى فرضتها علينا عصابة إخوان الشياطين وأتباعها القتلة. هذان السلاحان أولهما وحدة ومتانة «السبيكة الوطنية» الثمينة والنادرة، التى لولاها ما انتصرت الثورة وما استطعنا الخلاص من أسوأ وأبشع عصابة إجرام مرَّت علينا فى تاريخ الدولة المصرية الحديثة كله، أما السلاح الثانى فهو مغالبة قسوة المعركة ضد الإرهاب والتخريب والشروع بغير إبطاء فى بناء أسس ومرتكزات الحياة الجديدة التى تسكن أحلامنا من سنين وعقود طويلة، أى أن نعيش فى وطن ناهض متقدم نتمتع فيه بالحرية والعدالة والمساواة.
وختمتُ سطور أمس بأن السلاحين الغائبين كلاهما يتوفر إذا تحلى من بيده الأمر بقدر كبير من الحكمة وعقل سياسى راجح ويقظ يستطيع أن يرصد ويفهم الأولويات ويحشد القوى ولا يبددها ثم يديرها ويستعملها برشد وكفاءة على جبهة حرب معقدة تمتد من قتال الإرهابيين ودحرهم، إلى جهاد النفس لئلا نقع فى شَرَك التوتر والسلوك والتصرفات الغرائزية التى من شأنها إلهاؤنا عن هدف البناء، وأن يخفت حضوره ويغيب خلف غبار الفوضى والعشوائية.
قد يبدو الكلام السابق عموميا ومجردا بدرجة لا تسمح بوضع اليد على أخطاء وخطايا يجب علاجها اليوم وفورا قبل أن نذهب بعيدا فى الإخفاق والفشل، لهذا سأكرّس ما تبقى من هذه السطور لمظهر أو سبب واحد من أسباب تلك الحالة المرعبة التى باتت تسثير فعلا الآن فى نفوس قطاعات واسعة من المخلصين قلقا وخوفا عظيمين على وحدتنا الوطنية وتماسك سبيكة «30 يونيو» وقدرتنا على الاستفادة من قوة هذه الأخيرة وتأثيرها الإيجابى الهائل فى جبهة الحرب على الإرهاب.
هنا لا بد أن أقول بكل وضوح وصراحة إن مكونات مهمة وحساسة من هذه السبيكة الرائعة تضررت وتباعدت قليلا أو انشقت (بعضها غادر وابتعد تماما) تحت وطأة أسباب عديدة ومركبة غير أن أقواها للأسف، هذا الفيض المتزايد من التصرفات العبثية الهوجاء وأخطاء وخطايا مدهشة فضحت ضعفا مريعا فى الإدراك وأنيميا حادة فى الوعى السياسى، لعل أبرز وأوضح أعراضه هذا العناد وضيق الأفق فى التعامل مع شريحة (ليست كبيرة، لكنها شديدة الإخلاص وبالغة الأهمية) من شبابنا المتعلم الذى لا ينتمى إلى العصابة الإخوانية بل يناصبها العداء، وكان فى مقدمة صفوف المقاومين والمجهادين ضدها حتى سقطت واندحرت، غير أن ذلك لم يشفع لهؤلاء الشباب عند سلطة تئن من فرط الغلب العقلى وفقر الحس السياسى ما جعلها تندفع بطريقة غرائزية فى طريق الانتقام والتصلب وعدم التسامح مع شباب ربما تنقصه الخبرة ويكابد قلة الوعى وبؤس الثقافة السياسية إلا أنه مفعم بحماس وإخلاص شديدين، لكنهما معجونان بقدر (كبير أو قليل) من البراءة والنَّزَق وحماقة بواكير العمر الطبيعية.
وقد يرى كثير من الناس، عن حق، أن «قانون التظاهر» بصيغته الحالية، لم يفد بشىء، إنما زاد وفاقم جدا من عوامل التوتر والشقاق، خصوصا فى أوساط شريحة الشباب المذكورة، ليس فقط لأنه تجاوز فكرة تنظيم هذا الحق الدستورى وفرض عليه قيودا غير مقبولة ولا معقولة على الأقل فى الظرف السياسى الحالى، إنما الأخطر أن تطبيق هذا القانون تم بطريقة وصلت فى القسوة والسوء إلى حد أنه بدا مجرد «ذريعة» للتنكيل والانتقام من هؤلاء الشباب المسالم ودفعهم دفعا (وبتهور مثير للرعب) إلى الوقوع فى خندق العداء لسلطة أفرزتها ثورة 30 يونيو، التى شارك الشباب بقوة هائلة فى صنعها!
أنهوا هذه الدراما المحزنة قبل فوات الأوان.