هكذا مباشرة ومن دون مقدمات أقول: إذا كان السؤال الآن «النصر أم الشهادة»؟ فإن إجابتى أننى أختار النصر لا الموت والاستشهاد..
وبعد.. فقد قال العبد لله وكتب من قبل بدل المرة مليونا، إن كثيرين ممن يستهويهم ويُرضِى طموحهم ويُشبع جوعهم للتحقق أن ينعتوا أنفسهم «ثوارا»، تعربد فى رؤوسهم وتتزاحم مفاهيم مشوشة (لكى لا أقول مشوهة)، أخطرها رؤية للثورة ملخصها أنها مجرد فعل غرائزى خالص مجرد وبرىء تماما من أى أهداف أو غايات، سوى استمرار هذا المهرجان الثورى للأبد، والاستعداد الدائم للموت والاستشهاد فى سبيله وخلاص، أما إلى أين يوصّل هذا السبيل؟ فهو سؤال بغير إجابة وربما غير مطروح أصلا.. مع أن الثورة هى دائما وأبدا من أجل الحياة الأفضل والأجمل!!
وما زلت أذكر تلك الفتاة البريئة الرائعة التى كانت فى الأيام الأولى لثورة 25 يناير (قبل أن تنشلها عصابة الأشرار قطاع الطرق) نجمة متألقة من نجوم «شباب الثورة».. هذه الفتاة شاهدتها ذات مساء على إحدى شاشات التلفزة، ترد على مذيع نابه سألها عن الهدف المطلوب تحقيقه لإنهاء واحدة من الفاعليات الاحتجاجية الصاخبة (والدموية) أيامها، فإذا بها تتلعثم ثم تلوذ قليلا بصمت مطبق، قبل أن يفتح الله عليها بالإجابة الآتية: هدف إيه، وأهداف إيه؟ إحنا حضرتك فى ثورة.. ماتسألنيش عن الأهداف، اسألنى عن الثورة!!
هذا النوع من التفكير وتلك الحالة العقلية البائسة (مع شديد تقديرى لنعمتَى العقل والتفكير) هما من أهم أسرار وأسباب تعثرنا، وما زالا يشكّلان ملمحًا رئيسيا من ملامح لوحة الفوضى والارتباك والتعثر، التى استفحلت وتمددت طوال السنوات الثلات الماضية، وأغلب جهادنا الحالى للخروج منها، وأزعم بيقين راسخ أن عصابة الشر الإخوانية ما كانت تستطيع أن تُتمّ بكل هذا اليسر والسهولة خطة نشل الثورة، لولا أنها اغتنمت واستثمرت خيبتين أساسيتين أولاهما خيبة المجلس العسكرى السابق، وتواطؤ بعض أعضائه مع العصابة (بالجهل أو بالطمع)، والثانية الحال العقلية والثقافية البائسة للشريحة المتحركة من شبابنا الثورى، إذ بينما كان «العسكرى» يجهّز بالغباوة «المسرح الفوقى» لصعود العصابة للقُعاد على أنفاس الوطن، فإن الحماقة الثورية كانت فى الوقت نفسه تلعب لعبتها الخطرة، حتى بددت تعاطف قطاعات واسعة من الشعب الذى هو القوة الأساسية الساحقة، ولولا يقظته وحسه التاريخى والحضارى المرهف ما كان ممكنا بهذه السرعة هزيمة مشروع الفاشية الطائفية الرهيب، والمدعوم من قوى أعداء الخارج و«أتباعهم»، ودفنه إلى الأبد بعد عام واحد فقط.
واليوم أخشى أن الفوضى العقلية المسيَّجة بالغرور، التى تدفع أصحابها إلى احتقار التفكير والنفور من الثقافة والتعليم، والقعاد المتكاسل عن واجب التأمل فى واقع سياسى واجتماعى ووطنى وإقليمى صعب التركيب وبالغ التعقيد، ومتخم بالمشكلات وآثار فيض هائل من كوارث ومآسٍ لا أول لها ولا آخر، تراكمت خلال عقود زمن المخلوع وولده، واستمر تفاقمها فى عام الجمر الإخوانى.. أخشى أن هذه الفوضى تستأنف نشاطها الآن، بتحفيز من أخطاء وخطايا لا تُغتفر ترتكبها السلطة الممزقة الحالية (هى فى الواقع جزر وإقطاعيات معزولة، ولا ينتظمها رابط، ولا تجتمع على رؤية كلية واضحة)، التى تبدو فقيرة جدا فى الحس والموهبة السياسية.
وأسأل فى النهاية: هل نحن محشورون الآن بين غباوتين، إحداهما تضغط علينا من فوق، والثانية راسخة راسية تحت؟! الإجابة «نعم» بلا تردد، ودليلى المادى القاطع هذا الطوفان من مظاهر داء فوضى الأولويات، الذى يمسك بتلابيب شريحة من الثوريين وفرقة من الحكوميين، دون أى اعتبار لظروف وضرورات ومتطلبات النصر فى حربين، شاء القدر أن نخوضهما معا وفى وقت واحد.. الأولى حرب الإرهاب والتخريب القذرة التى تشنها علينا عصابة الشر، والثانية الحرب من أجل بناء الوطن الجديد الحر المتقدم الناهض، تحت ظلال الديمقراطية والعدالة والمساواة، ذلك الذى من أجله صنع المصريون ثورتين أسطوريتين فى أقل من ثلاثة أعوام.
ومع ذلك عندى أمل أننا قد نجد بسرعة طريقا للإفلات من أسر الغباوتين، فننتصر ولا نموت إن شاء الله.