ايجى ميديا

الأربعاء , 8 يناير 2025
ايمان سمير تكتب -وقالوا عن الحرب)مني خليل تكتب -اثرياء الحرب يشعلون اسعار الذهبكيروش يمنح محمد الشناوي فرصة أخيرة قبل مواجهة السنغالايمان سمير تكتب -عيد حبعصام عبد الفتاح يوقف الحكم محمود بسيونيمني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الرابعالمصرى يرد على رفض الجبلاية تأجيل لقاء سيراميكا: لماذا لا نلعب 9 مارس؟مني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الثالثمني خليل - احسان عبد القدوس شكل وجدان الكتابة عنديالجزء الثاني / رواية غياهب الأيام كتبت / مني خليلإحاله المذيع حسام حداد للتحقيق وإيقافه عن العملتعاون بين الاتحاد المصري للدراجات النارية ودولة جيبوتي لإقامة بطولات مشتركةغياهب الايام - الجزء الاول - كتبت مني خليلاتحاد الكرة استحداث إدارة جديدة تحت مسمى إدارة اللاعبين المحترفين،كيروش يطالب معاونيه بتقرير عن فرق الدورى قبل مباراة السنغال| قائمة المنتخب الوطني المشاركة في نهائيات الأمم الأفريقية 🇪🇬 .... ⬇️⬇️اللجنة الاولمبية تعتمد مجلس نادي النصر برئاسة عبد الحقطارق رمضان يكشف سر عدم ترشح المستشار احمد جلال ابراهيم لانتخابات الزمالكنكشف البند الذي يمنع الدكتورة دينا الرفاعي من الاشراف علي الكرة النسائيةوائل جمعة نتتظر وصول كيروش

إبراهيم عيسى: سباق المتاهات

-  
إبراهيم عيسى

نودع الأفراح

نودع الأشباح

راح اللى راح

من أغنية لجاهين

يأتيه هذا الحلم كثيرًا.ضبابى ومتلاحق ومرتبك.. وفارغ.

يرى نفسه فى سرادق الامتحانات «آخر العام» وقد ترك صفحات كراسته بيضاء من غير سوء، الوقت أوشك على النهاية، والطلاب يمضون من الزحام إلى الانفضاض، ويتأكّد رسوبه فى المادة.

ويأتى الحلم أحيانًا على أنه نسى الذهاب إلى الامتحان، يعبر أحد زملائه أمامه ويسأله سر عدم حضوره، يكتشف ضياع الامتحان، وتأكّد الرسوب، وهباء السنة.

ويقوم من النوم فزعًا مرتجفًا ومخضوضًا.

ثم يرتاح ويبرح الخوف جنباته حين يتذكَّر أنه قد تخرَّج فى الجامعة منذ خمس سنوات وأن هذا محض حلم.

أو ربما كابوس.

لا يعرف لهذا الحلم سرّه ولا ضروريته ولا هذا الإلحاح الغريب فى حضوره السخى له كلما ظنّ أنها مرّة وعبرت.

يشترك أصدقاؤه فى المرح عليه والهزء به وبحلمه عندما يقصّه عليهم، فترك الحلم عند وسادته وذهب إلى عمله فى صباح سيئ مثل هذا.

توقَّف طويلاً أمام النافذة العريضة المطلَّة على الشارع الخلفى بترامه البطىء المنقرض، وبيوت متهالكة المبنى ومقهى صغير فظّ البدائية يسكن زبائنه رصيفًا ضيّقًا محبوسًا.

كان المكان يدفعه إلى انقباض مريع يظنّه الآن مكشوفًا لديه، فكأنه حجر من نار متأججة يسقط من قلبه إلى بطنه ويتدحرج إلى أمعائه ثم مسالكه البولية فتشتعل لهبًا ثم تكتسح ساقيه، وحينما يتذكَّر أحد أقاربه غير البعيدين الذى ألقى فوق جسده عبوة صفيحة من الجاز وأشعل النار فى نفسه بعود ثقاب احترقت علبته الكرتونية فى كفِّه، ورموا عليه -وحيدًا فى ممر ضيّق يؤدّى إلى وسعاية الدار- الماء والأغطية، ونقلوه إلى المستشفى الميرى الضحل، يدخل -فى غفلة من الأهل- إلى الغرفة، يراه الآن -بعد كل هذه السنوات عميقة الغور- تحت فرش غريب، ساقاه محمرتان محروقتان، وصورة وجهه تركت بصمتها على ذاكرة تؤرّقها قوتها، والكلام المدموغ بالدموع، والشاب الطيب الضعفان يهمس فى ألفاظ محترقة الحواف:

- شُفت.

نار القريب قريبة إلى عينيه المغشية بالدمع الندى، واقفًا محزونًا -كعادته- أمام زجاج فقد قدرته على الشفافية.

لم يعد يعرف لِمَ اليقظة، فإذا به كل صبح ممرور يمرّه، يتكاسل جسده عن الاستجابة إلى نداء العقل أن يقوم ويصحو وينهض من فراشه ذى النتوءات الخجلة والهواء الثقيل المعبَّأ فى فراغ الغرفة يضغط على أنفاسه ويسأل نفسه: لماذا يصحو؟ لا شىء يدعوه لأن يلقاه فى الخارج؟

لكنه -كذلك- يسأل نفسه: لماذا يبقى قابعًا فى غرفة وحيدة وحيدًا؟

لا شىء فى الخارج يدعوه، ولا شىء فى الداخل يبقيه.

الذى ننام فيه نصبح به.

الأمكنة نفسها والشوارع والحوانيت والحواديت والهزائم والانكسارات، والحب المكبوح والشهوة المغموسة بطهارة قديمة، ودخان كثيف قادم من هناك إلى هناك، وعبارات مكررة وليالٍ مباركة وصدر مفتوح للغم والهم -ومغلق عليهما أيضًا- وفم ضحوك حتى البلاهة وغناء مبحوح ووجوه تزيّن حوائط القلب دون أن تهزّه.

ولهذا.

فإنه يرى نفسه أحيانًا فى شارع الترام الملتوى الطويل يركض بملابس ممزَّقة وركبة مفضوحة وشعر منفوش وقميص منتزعة أكمامه، لاهثًا رائح الروح يسقط على ركبتيه فإذا سهام ورماح تخرج من النوافذ المحيطة -فُتحت لمروق الأسهم وطلّ العيون- فتتجه كلها إلى قلبه وتنغرس ساخنة كريمة الدماء، ووجع ملتاع وألم متفجّر وأودية من خيوط العرق والدم تغوص فى ثوبه وجسده، جاثيًا على قدميه وأنَّة مريرة مكبوتة أفقدها صمم الناس عنه غوثها، ووجوده الضئيل فى خلاء يمتد ويتّسع حتى يطوى صحراء وزروع صبار وصخورًا ودماء فى بحيرة آخر المدى.

وأحيانًا ما كان يرى هذا الشارع هو نفسه، الطريق الأسفلتى الواسع الممتد فى مدينة ساحلية ارتحلت عائلته إليها فى غربة إعارة مع والده، زخّات المطر المتلاحقة المفاجئة وفحيح الريح وسكون الظلمة واستكانة المرض فى ظهر والده الراقد على سرير فى غرفة يحصدها الألم، وكان والده قليل المرض، نادر التوجُّع، منير الثغر، صابر الملامح، فلما زاد الألم واشتدت المحنة، سارعت أمُّه المحزونة وشبكت قبضتها بيد ابنها الصغيرة المضمومة بين الأصابع على قبضة أُمّه المرتعشة، ومضيا على درج السلالم الرخامية العريضة التى تشارك البرد مؤامراته عليهما، وأضواء المصابيح نحيلة فى زوايا السلالم، وامتداد زلق للجدار المحيط بالسلم فى زخرفته المنقطة تمر أصابع الطفل النازلة عليه تطرقه سندًا أو تسليةً، حتى ينكشف ليل الغربة وضيعة الغرباء فى شارع مطير، على رصيف عالٍ عريض دقيق البلاط، وأُمّه فى ثوب ثقيل مرتبك الأطراف ودِثار داخلى مكوم وحذاء لوَّثته الأمطار وداسه الطمى الهش متكوِّنًا من تراب منسى، ودموعها فى وحشية حزن لا يرحم وتعثّر امرأة تبحث عن طبيب لزوجها، وولد طرى وباك ملء كفّيها، وكانت تقصد إحدى المصريات التى تعرَّفوا إليها حديثًا وتبيّنوا صلةً ما بين قراهم فى مصر، ويتوقف المشهد مأسورًا عند هذه اللحظة، مطر وبكاء ولهاث وتعثّر وأم وطفل، دونما معرفة أى حال استقر عليها الأمر، ورغم مرور زمن وعبور سفن وحط طير، فإنه لم يسأل يومًا عن غموض الذاكرة.

هذا هو عمله اليومى.

جلوس وراء مكتب وخربشة على ورق وتنفّس بطىء ثقيل، وذكريات متدافعة وحزن مدفوع الأجر، ووجوه مخفيّة الروح تحيطه وتدور حوله وتشتبك فيه وتفرض نفسها على وجوده.

هذه «المصلحة» لا تفعل سوى مجموعة أوراق وزحام ملفات تدفع بها إلى مصلحة أخرى.

وكر الأيام يتّبع فرّها.. ولا شىء.

أهو السقم أصابه؟

أم مرض أحلّ به؟

أم جز لخيط حزنه وعصف بكون فرحه؟

ارتباك وتردّد وتخبّط وتعقّد، وكلها أحاسيس محجوبة خلف ستار وجهه الذى يلقى به الناس، ويشرب به الشاى ويدغدغ الأوقات بضحك مقتضب أو قرقعة فارغة.

الوحيد الذى رآه عند قدومه إلى القاهرة.. كان سامى، وأكثر ما كان يخشاه -هذه الأيام- هو سامى نفسه.

أيمكن أن ينتهى إلى نهايته؟ أو يلقى فى ذات مأواه؟

سامى.

ألم يكن هو الشاب المليح النحيل الطويل، الذى رافقهم فى المدينة الجامعية أول عام، وكان قدومه من قرية ساحلية صغيرة «فيها بحر تروح إليه الماشية» جزعًا من القاهرة، مرتبكًا بالأفكار -لأنها كثيرة داخله- محشوّة فى صدره، وكان تفوّقه فى اللغة الإنجليزية -القسم الذى التحق به- هو كل مبتغاه ومسعى أمله، كان طلوقًا فى لكنته، واثقًا فى ثقافته، مؤمنًا بتفوّقه، وصعوده إلى عالم التدريس فى الجامعة، وكنا معه مؤمنين!

لدى حضور سامى إلى غرفته، كان ضوء شمعتين صاحيتين يملؤها بعد انقطاع الكهرباء، وكان صوت سامى مرددًا كلمات اللغة الإنجليزية وملقيًا مقطعًا من قصيدة، دفيئًا وحزينًا ومغتربًا.

وبعد أشهر الصيف التقاه فى فسحة أمام الكلية، وجد «سامى» آخر، سمينًا وممتلئًا، زاعقًا ومبحلقًا، غاضبًا حانقًا ضاحكًا قليل الحياء مفرط البذاءة، لقد فشل فى الحصول على تقدير ممتاز، فأصابه مَسّ، امتد إلى الجنون بخطوات متعاقبة، يدخل إلى عميد الكلية ليطلب يد ابنته، ويسبّ أساتذته ويتهمهم باضطهاده، ويلعن بنات الكلية، ويحاول أن يقبلهن فى الممرات والمدرجات، ويدخل شجارات متدافعة مع زملائه، ويسرق من غرق المدينة الجامعية.

وقيل: إنه كان يصعد المنابر فى قريته فيخطف مكبرات الصوت، فيصعد له الناس ويضربونه ضربًا فيه شفقة وغيظ محتبسان.

سامى.. الصوت الدافئ فى ليالى انقطاع الكهرباء الذى يأنس به ويرتاح إليه، يأتيه خفيفًا إلى هذه الغرفة المتّسعة الباردة فى المصلحة،

حين اكتشف وجود جهاز الكمبيوتر بها، سَعِد واستبشر وصار وقته كله مكرَّسًا للكمبيوتر، يتعلَّمه ويحبّه ويتدرب عليه ويبنى جسورًا بينه وبين جهاز وشاشة وطابعة، وكان صوت رنين الطابعة وهى تخرج الورق منها مكتوبًا أليفًا ومحبوبًا وزاهيًا.

الكمبيوتر أضاع كثيرًا من عنائه كثيرًا من الأيام.

لكنه -الآن- يدخل الغرفة نفسها ويرى زملاءه متحلّقين أمام شاشة الكمبيوتر يلعبون سباقًا للسيارات أو المتاهات.

وكانت ضحكاتهم مختلطة الاختلاط نفسه الذى يحياه.

التعليقات