الشعراء يثيرون الضحك.. فالمدينة لم تعد تحتملهم، مهنتهم القديمة فى الغناء والنبوة لها بديل فى الفضاء المفتوح، أو عند مزين الديباجات السياسية.
الشعراء الآن يسيرون فى الشارع، ويشترون حاجاتهم من الدكاكين، ويتسكعون بين المقهى ومؤسسات لا تعرف أنهم شعراء.
لم يعد هودج السلطان يحتمل الشعراء كثيرًا. والقصور لا تستقبل الشعراء إلا بعد أن يكونوا مهرجين.
الدنيا تغيرت وليس فى المدينة الآن أمل دنقل أيقونة الصعاليك فى المدينة.. لم تعد الصعلكة ورفض السلطة حدثًا استثنائيًّا.
تسكع الشعراء أصبح مزاجا عاما/ لا أحد يروق له أضواء المؤسسات/ ولا استقبالات أصحاب السلطة. الشعراء يبحثون عن أصدقاء لا مرتبات يصعدون عليها إلى مقام الشاعر الأول/ الأوحد ليماثل الحاكم الأوحد والمغنى الأوحد.. وكل الجالسين على القمة المدببة التى لا تتسع إلا لشخص واحد.
أمل كما هو صورته عندى شاعر صعلوك تغويه الشوارع ولا يمتلك بيتًا. استعاض عن إقامة علاقة مع المدينة المتوحشة (القاهرة) وفق البرنامج التقليدى للأفندية والمثقفين المؤدبين فى نظر السلطة... وقرر أن يقيم خيمته فى شوارع المدينة (مثل المتشردين) ويصبح مزارًا (لم يكن هناك عاشق للثقافة يأتى إلى القاهرة ولا يريد مقابلة أمل دنقل) ووليا أو صاحب مقام خاص بعيدًا عن سلطة تشترى المثقفين وتضعهم فى واجهتها وعلى رأس كتائب مدفعيتها... ولا فى علب التنظيمات السياسية، التى إما أنها تحوّلت إلى دكاكين نضال بالأجرة، وإما استسلمت لسطوة الفكرة الواحدة.
أمل جاء إلى القاهرة بإحساس الغزاة. كان هذا فى المرة الثانية. الأولى عاد منها إلى قنا مهزومًا. كانت فى أعقاب العدوان الثلاثى. عبد الناصر كان فى زهوته، ومشروعه السياسى يفتن الجميع. أمل نفسه تطوع فى كتائب الفدائيين. توهموا أنهم سيحاربون على الجبهة فى بورسعيد. تدربوا على السلاح، لكنهم لم يخرجوا من مركز التدريب. كان أمل وقتها فى فورة صداقته مع عبد الرحمن الأبنودى، وهما ينتميان إلى نوع خاص من البيوت فى ذلك الزمن فى الصعيد. الأب مثقف تقليدى تخرج فى الأزهر وعاد إلى القرية شيخًا معمما، يدرس اللغة العربية ويكتب الشعر التقليدى، ويصبح مرجعًا فى شؤون الدين من إمامة الصلاة إلى الفتاوى... وجاء إلى القاهرة كما يحكى فى الفيلم «عندما قررنا أن نأتى إلى القاهرة للمرة الثانية قررنا أن نأتى كغزاة. كنت أنا وعبد الرحمن الأبنودى، هو يكتب العامية، وأنا الفصحى، جئنا بأفكارنا الخاصة عن العالم. فى المرة الأولى كنا نريد أن ندخل فى النسيج الموجود، أما فى المرة الثانية جئنا بخيول جديدة ومستعدين نفتح بها المدينة، إما نجحنا أو فشلنا، ونعود للعمل كموظفين، ونلتحق بكليات ونلتزم فيها، ونبقى موظفين صالحين».
المدهش أن أمل وعبد الرحمن افترقت بينهما الطرق بعد قليل من الوقت فى القاهرة. ظل أمل تحت خيمته فى شوارع القاهرة. وطارد عبد الرحمن أحلامه الواسعة. سار أولًا فى طريق تنظيمات اليسار تحت الأرض، وذاق طعم السجن عدة أشهر. فى التوقيت نفسه تقريبًا كان يذوق طعم شهرة مؤلف الأغانى ونجم المجتمعات الثقافية البعيدة عن الصعاليك. وأمل فى مكانه بعيدًا عن التنظيمات والشهرة العمومية. ظل الأبنودى يقفز بطموحه بين ذكرى السجين وإحساس المشاهير... حتى غادر نقطة اللقاء مع أمل، الذى قال له فى الأيام الأولى بلغة الحكماء «.. ستصبح أغنى منى وأشهر، فأرجو أن لا يغيرك هذا...». هل كان هذا نوعًا من الغيرة؟! أم نبوءة؟!
يحكى الأبنودى الحكاية الآن، ولا يعلق عليها.
(من حكايات القاهرة)