لا يستطيع منصف إلا أن يثمن ويمتدح مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسى التى أعلنها قبل أيام، وبمقتضاها تنازل عن نصف راتبه الرسمى وتبرع للدولة بنصف ميراثه وثروته الشخصية.. لقد قدم الرجل بهذه المبادرة مثالا ونموذجا راقيا ومحترما فى التقشف، وأظهر تضامنه العملى مع الأغلبية الساحقة من شعبنا، بينما هى تعانى وتكابد من ثقل تلال الفقر والبؤس المتراكمة فوق كواهلها، منذ انطلقت شياطين النهب والسلب على مدى أربعة عقود، وراحت تنزح الثروات الحرام نزحا وتكدسها فى كروشها حتى تحول المجتمع إلى شبه خرابة هائلة، تسرح بين جنباتها شتى صنوف العلل، من التخلف والفشل والإخفاق إلى الجوع والحرمان والعدم المادى والانحطاط العقلى والتشوه الروحى والأخلاقى.
لقد فهمنا أن الرئيس يريد بهذه المبادرة أن يلكز ويغمز بقوة طبقة اللصوص وأغنياء السُحت، ويرسل لهم رسالة مفادها أنهم لن يستطيعوا البقاء هكذا يرفلون وحدهم فى نعيم الرفاهية والترف، بينما الشعب من حولهم غارق فى الحرمان ونصفه تقريبا يغالب ويصارع صراع الأبطال، لكى يفوز بمجرد البقاء على قيد الحياة.. إذن الرسالة من حيث المبدأ واضحة المعنى، وملخصها أن البؤس والتخلف وصلا إلى منتهاهما، واستقرا عند حدود كارثة وطنية وإنسانية رهيبة لو تفجرت مفاعيلها ومظاهرها فلن تُبقى ولن تَذَر.
ومع ذلك هل تكفى إشارات ذات طابع ودى وعاطفى ومبادرة محترمة تنضح بالنيات الحسنة للشروع فى إزالة جبال البؤس والتخلف؟! الإجابة بكل تأكيد: لأ.. ربما هى تكفى فحسب لتهيئة مناخ وبيئة ينطلق تحت ظلالها عمل هائل ومنظم ومبرمج، يستند إلى رؤية علمية رشيدة للنهوض الشامل بالوطن، وانتشال أهله من مستنقع الظلم والقهر والعدم، عبر تصميم واتباع حزمة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية (قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل) مشفوعة بخطط وإجراءات مدروسة وشجاعة ومقننة أيضا، أى لا تخضع للمزاج، ولا تعتمد على الروح الخيرة وحسن أخلاق البعض، كما لا يعطلها جشع وانحطاط وسوء تربية وتعليم البعض الآخر.
باختصار، مبادرة الرئيس لا ينقصها الرقى والنبل، إنما لن تؤدى غرضها ولن تبلغ أى هدف ما لم توضع فى سياقها الصحيح، بمعنى أن تكون مجرد مقدمة وإشارة ذات طابع أخلاقى، إلى أن الدولة وسلطتها الجديدة عازمة ومصممة على بناء الوطن الجديد، الذى هتف الملايين فى ثورتين متتابعتين بشعارات وكلمات رائعة ترسم ملامحه البهية.. عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.
غير أن المناخ والبيئة النظيفة اللذين يسمحان بالسير الآمن على الطريق (الصعب أصلا) الواصل إلى تحقيق هذه الشعارات ونقلها من فضاء الهتاف إلى أرض الحقيقة، يحتاجان إلى ما هو أكثر من مبادرة الرئيس الأخيرة، إذ يصعب وربما يستحيل عمليا أن نمضى بنجاح فى تنفيذ مهمة البناء من دون أن نستعيد وحدتنا الوطنية، ونرمم التصدعات المعنوية الخطيرة التى أصابت فى الشهور الأخيرة سبيكة ثورة 30 يونيو، وباعدت بين بعض مكوناتها، سواء بسبب أخطاء وخطايا كان يمكن تجنبها، أو تحت ضغط أوضاع ومعطيات بالغة الحساسية والخطورة فرضتها الحرب الإرهابية القذرة وغير المسبوقة، التى شنتها على الدولة والمجتمع المصريّين عصابة «إخوان الشياطين» وأسيادها المتربصون بهذا البلد خارج الحدود.
وأختم بأن الحكمة والرغبة الصادقة فى النجاح (الذى لا خيار أمامنا إلا أن نفوز به) تفرضان سد الثغرات وإبطال ذرائع الفتن والتحلى بقدر كبير من سعة الصدر والتسامح مع قطاع من مجتمعنا، لا تقاس أهميته بالعدد والحجم، إنما بفاعليته وإخلاصه وقدرته واستعداده اللا محدود على العطاء.. أقصد الشريحة المتعلمة من شبابنا الذين يتفجرون بالحماس ويحملون فيضا هائلا من الأحلام الجميلة، لكنهم ربما يتعثرون فى بعض النزق وضعف الخبرة.. هؤلاء لا يجب أبدا أن يغيبوا خلف جدران السجن الرطبة، وأن يعاملوا بشدة وقسوة تفوق أحيانا ما يلقاه الإرهابيون القتلة.
إننا فى أشد الحاجة إلى أن نستجمع قوانا ونلملم شتاتنا ونحفظ لحمنا ونطوى الضلوع على فلذات أكبادنا، ولا ندفعهم دفعا للسقوط فى مهاوى اليأس والقنوط والإحباط، أو نهدى بعضهم مجانا وبحماقة إلى عصابات مجرمة ومسكونة بالشر تقتلنا وتسبح فى دماء شهدائنا.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.