أتذكر الآن حادثة كان بطلها الدكتور عمارة عندما كان عضو مجمع البحوث الإسلامية. وأعد بحثا عن كتاب للدكتور نصر أبو زيد هو «الخطاب والتأويل»، أوصى فيه بمنع تداول الكتاب، لأنه «يشكك فى ثابتين من ثوابت العقيدة». وهذا يعنى حُكمًا التكفير ومنع دخول الكتاب مصر. وطبعا لم يناقشه أحد من المجمع، ولم يعترض حتى شيخ الأزهر. واعتمدوا بحثه رغم أن أحدا منهم لو بذل جهدا قليلا وقلب صفحات الكتاب لاكتشف بسهولة أن هناك فصلاً كاملاً يفضح فيه أسلوب الدكتور محمد عمارة فى اللعب بقناع المعرفة ليمرر أفكاره الأيديولوجية.
يستخدم عمارة نفس أسلوب «مباحث الأفكار» من عصور الانحطاط فى التاريخ الإسلامى إلى محاكم التفتيش فى أوروبا حتى المكارثية فى أمريكا. يتهم بدلا من أن يناقش، ويتحدث «باسم فكرة مقدسة» ليحسم الخلاف لصالحه. يحتكر الحقيقة المطلقة، ويرى فى نفسه سلطة «معرفية» تُصدر أحكامها وترسم المسار والمصير.
عبر البريد الإلكترونى وصلنى يومها تعليق مكثف من نصر أبو زيد، يقول:
«عزيزى... من العبث وإضاعة الوقت الانشغال بمثل هذه المواقف الركيكة فى عصر السماوات المفتوحة والإنترنت. لو قرأت الكتاب، الفصل الثالث على وجه التحديد «موقف محمد عمارة من على عبد الرازق»: غلبة الأيديولوجى على المعرفى (ص: 105) لعرفت السبب، وإذا عُرف السبب بطل العجب».
وكانت مناسبة لاكتشاف لعبة محمد عمارة الذى يعتبرونه فى التيار الإسلامى أنه يكتسح خصومه. وبالفعل يمكن أن تجده فى الفضائيات يتحدث بمنطق مخيف يصدر الأحكام ويوزع الاتهامات ويعطى صكوك الغفران. إنه «زعيم» بلغة أهل السياسة، و«فتوة» بلغة الشارع.
كما كان تقريبا وهو فى تنظيمات الماركسيين السرية.
يقول نصر: «فى بداية السبعينيات كان خطاب محمد عمارة ينطلق من أهم المرتكزات العقلانية المستنيرة فى التراث العربى الإسلامى، وأهمها إنجازات المعتزلة، لذلك كان حريصًا على نشر تراث التنوير العربى الحديث، والمصرى منه بصفة خاصة».
لكن بعد هزيمة يونيو 1967 انحسرت نجومية الجنرالات، وأصيب الموديل القومجى فى مقتل. وكنوع من رد الفعل بحث الشطار عن دواء للجروح القومية فى الإسلام.
تعيش أفكار الدكتور عمارة براحة تامة فى حضن نظرية المؤامرة. وجوده يعتمد على الإيحاء دائما بأن وراء كل شىء مخططًا استعماريًّا، غربيًّا، صليبيًّا، (أحيانا تفلت منه هذه الكلمة). بل إنه ومع رواج بضاعته بدأ الكلام عن توحيد أكثر عنصرية يستبعد منه الشيعة.
فى «الأخبار» (4 يوليو 2003) كتب عن «توحيد الأمة على المذهب السنّى قبل البدء فى معركته الفاصلة لتحرير القدس». وهو هنا يشير إلى صلاح الدين الأيوبى، الذى لعب على اعتباره رمز استعادة القدس ليمرر مشروعًا عنصريًّا طائفيًّا يقوم على القضاء على كل المختلفين، ويقول بفخر: «بلغ صلاح الدين حد التشدد ضد كل الفكريات والفلسفات والأيديولوجيات المخالفة للسنّة، عقيدة الأغلبية وأيديولوجيتها، فقضى على دُعاة الإسماعيلية الباطنية، وأمرَ ابنه حاكم حلب بإعدام فيلسوف الغنوصية الإشراقية، السهروردى (1154-1191م)، لما أثاره فى مناظراته مع الفقهاء من بلبلة فكرية كانت تخلط الأوراق بين الحضارات والثقافات، فتضع زرادشت وأفلاطون مع نبى الإسلام، وتخلط محاورات أفلاطون مع الوحى الكلدانى بالقرآن الكريم، فى وقت يحتاج فيه الصراع مع الآخر إلى اعتماد منهاج «الفروق» للتميّز عن الآخر، ولِملْء الوجدان بالكراهة له، كشرطٍ من شروط التعبئة والانتصار».
كأن على المسلمين السنة الآن أن يقتلوا الشيعة ليحرروا القدس. أو على أى أغلبية أن تتخلص من الأقليات للحفاظ على مجتمعات النقاء العنصرى (وهذا هو جوهر فكرة إسرائيل التى لا تريد على أرض فلسطين إلا اليهود).
هذا هو «المفكر الإسلامى» كما يصفون محمد عمارة بحماس بالغ فى الميديا الحكومية.. والمقيم فى قلعة الاعتدال ببدلته الحربية الكاملة.