كان البحر يطهو وجبة الصباح، وَشْوَشَة فى النسيم الرطب، ندى معلَّقًا على رأس سعد زغلول، تمثالاً فى الحديقة الخضراء الممزوجة بملح الهواء الثقيل.
فندق «سيسل» السكندرى الملقى من جوف الماضى إلى إعلانات المياه الغازية فوق سطحه، الشارع المنحدر إلى البحر بسياراته وركَّابها.. بقلوب ينهبها الدوار.
كانت الإسكندرية تهرس قلبى تحت عجلات الترام الذى يقطع الشارع الموازى للكورنيش، أقف فى الزحام المكبَّل بالهزيمة حول المركبة الضخمة ذات الزجاج الذى يخفى وجوه المسافرين عن المودِّعين، لونًا طحينيًّا كنظارات الأجانب المثبتين على رصيف قطار الأقصر.
تعوَّدنا إدارة أمور دموعنا عند السفر.. أبى يقاوم -كالرجال الجريحة- دمعة تهدم حصن الرجولة.. أُمِّى تقضم توتّرها مع ضغط كفها لأصابع أخى الصغير «أنا وأُمِّى وأخى الصغير، لماذا نتقاسم دائمًا وجبة الوداع؟».
أبى -هل هناك حاجة لإعادة وصفه- يمد أصابعه مستقيمة يهزّها ارتجاف خفيف نحو حقيبة السفر كى يضعها فى بطن السيارة.
أمد كفّى لأساعده.
تمد كفّها فوق يدى.. ناعمة.. طريّة، بيضاء، ملفوفة بذوبان قطع السكر.
التفتُّ نحوها.
التصقَت كتفُها بى وابتسمَت، أفسحوا للنهر مُتَّسعًا، أفرزت الدهشة عَرقًا، عندما همست بى:
- ألا تعرفنى يا إبراهيم؟!
انكمشتُ جدًّا.
- أنا أسماء يا إبراهيم!
تقلَّصتُ تمامًا.
- أنا أختك.. ألا تذكرُنى، يوم لفَّنى أبونا بالقماش الأبيض الناصع، واهتزّت كفّه تحيط برأسى الصغير فى لفافتى مودّعة عيونه وحضن أُمِّى ولمسة كفّك على خدّى عندما تقفز فوق السرير رافضًا صراخ أُمّنا أن تترك «أختك يا ولد».
ألا تذكر يوم كنت ترتدى «الشورت» القصير الأزرق والقميص المخطّط تقف فى زاوية الصالة تبكى.. «أين تذهبون بأختى؟»، ويومئ أبونا برأسه لأخواتى وهو يبكى.
دخل إلى الحديقة وعند شجرة الليمون، أزاح زهر الليمون، جمع الثمار الساقطة، حفر قبرًا صغيرًا عميقًا.
إننى أراه إلى الآن كلما عبر ناحية الشجرة.. أفرجت عيونه اعتقال دمعة.. وقرأ لى الفاتحة.
- أنا أسماء يا إبراهيم.. لكنك كبرت.
تزلزل جسدى.. انفكَّت «مسامير» روحى تمامًا، جريت نحو السيارة التى تحجز وجه أبى عنّى، وقد ضغط السائق على زر فانغلق بابها فى وجهى آليًّا جهمًا.
ضربت الباب بحذائى.
صفعت السيارة بكفِّى.
- اخرج يا أبى.. أسماء هنا يا أبى.