مَن يُرد أن يُمسك بمؤشر يتيح له أن يعرف حال الدولة وهامش الحرية المتاح، فعليه أن يترقَّب مسلسلات رمضان التى تهل علينا بعد أيام، ما حدود المسموح وكيف نتعامل مع ما نراه ممنوعًا.
تناقلت أجهزة الإعلام أن المهندس إبراهيم محلب سوف يترك كل ما تعيشه مصر من مشكلات، رغيف عيش وكهرباء وماء ومواصلات ونظافة، ويتفرَّغ لمتابعة ما تبثّه الشاشات، ويُشهر على الفور المقص فى وجه كل ما يراه يحمل تجاوزًا للذوق العام، ويبقى السؤال عن هذا المعيار الزئبقى، الذوق العام.
لا يمكن سوى أن نلاحظ أن هناك كثيرا من المبالغات فى الألفاظ والأداء، وعددًا من الفنانين والفنانات زادت أجورهم بسبب زيادة جرعة التجاوزات اللفظية والحركية، ولكن الحل ليست المصادرة.
طوال تاريخ الدراما واجه عدد من المسلسلات هجومًا صارخًا، خصوصًا فى رمضان، بدعوى تعارضها مع الشهر الكريم، أتذكَّر مثلًا «الحاج متولى»، اعتبرته سوزان مبارك معركتها الأهم، وكان من الممكن أن تلمح لهاث عدد من كبار الكُتَّاب فى توجيه الاتهامات إلى المسلسل، أملًا فى إرضاء الست، ومع الزمن صار «متولى» واحدًا من أكثر المسلسلات ترديدًا وجماهيرية فى مصر والعالم العربى.
«زهرة» و«العار» و«الباطنية» و«البلطجى» و«حياة»، وغيرها وغيرها، لى عليها عديد من الملاحظات والانتقادات كتبتها فى حينها، ولكن أيضًا لم ولن أقف أبدًا فى طابور تشريع المنع. اكتشف بعض المثقفين أن الوسيلة المضمونة للوصول إلى الدولة هى أن يعلو صوتك مثلها بالحديث عن التسيّب وانهيار القيم وتفشّى الرذيلة فى الأعمال الفنية، وتنهى كلمتك بأن الحياة لن ينصلح حالها إلا بالتصدّى لما تبثّه الشاشة.
هل تعلم عزيزى القارئ أن «فوازير نيللى» التى أخرجها العبقرى الراحل فهمى عبد الحميد، منذ منتصف السبعينيات، كانت تواجه بغضب عارم، بحجة أنها من مُبطلات الصيام، وكان التليفزيون أحيانًا يضطر نزولًا على رغبات الشجب، إلى عرضها بعد صلاة العشاء، بحجة أنها تُنسى الناس أداء الفروض، من الممكن أن نفسِّر حالة التحفُّظ الشديدة للدولة، التى أدَّت هذه الأيام إلى أن نقرأ كثيرًا اسم إبراهيم محلب متصدرًا صفحات الفن، وهو يهدِّد ويتوعَّد بالتدخُّل السريع لوقف أى مسلسل به تجاوز للذوق العام، وهو كما ترى مقياس مطاط من الممكن أن تُدخل تحت مظلته وفى معطفه أىَّ عمل فنى، خصوصًا أن رئيس الوزراء له سوابق فى مجال المصادرة، بدأت بفيلم «حلاوة روح»، هناك توجُّه يريد أن يصدر للرأى العام أن مصر أزاحت الإخوان عن الحكم، إلا أنها ستغلق الباب أمام مَن يتصوَّر أن هذا يعنى السماح بما يخدش الحياء العام، كأننا نلعب فى نفس ملعبهم ونستخدم ذات الأدوات والمفردات، عندما غضب الشيعة -على قلّة عددهم فى مصر- من أغنية تتردَّد فى فيلم «عبده موتة» وترقص عليها دينا «يا طاهرة يا اخت الحسن والحسين»، فى بداية عرض الفيلم لم يستشعر أحد أنها تحمل أى تعريض بآل البيت، ولكن الأزهر خاف أن يفسّر الأمر على هذا النحو، ليثبت أن السُّنة أكثر غيرة من الشيعة على آل البيت، فتشكَّلت لجنة رأسها د.علِى جمعة مفتى الديار المصرية السابق، وممثلا نقابتَى الممثلين والسينمائيين وكاتب هذه السطور، وتم الحذف، وعارضت القرار بشدة فى حضور فضيلة المفتى، وقلت للمجتمعين إنها سابقة خطيرة عندما نُشرع تدخل المؤسسة الدينية فى الأعمال الفنية، ولكن حتى منتج ومخرج الفيلم كانا مع الحذف إرضاءً للمشيخة. نعيش شيئًا من هذا، أرى الآن بوادره تلوح فى الأفق وتدق بقوة على الباب!!