أتعاطف مع الكلاب، وإن كنت لا أشارك بشرًا كثيرين حُبَّ عِشرتها.. وأراها مخلوقات طيبة وفية حتى وإن حوّلها شر البشر (شىء مختلف قليلاً وأسوأ كثيرًا من «شر البقر») إلى أدوات قمع ونهش وتخويف وإرعاب، فهى تظل ضحية ومجنيًّا عليها وليست جانية، وتبقى مظلومة لا ظالمة.
ومع ذلك كنت شابًّا صغيرًا عندما هتفت كثيرًا بحرقة وحماس مع الآلاف من أقرانى، ذلك الهتاف التاريخى المدوّى: «قولوا للكلب يلِمّ كلابُه، آدى الشعب وآدى شبابُه».. كان «الكلب» أيامها (سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى وعقد كامل من القرن الحالى) كناية عن حاكم ظالم فاسد وديكتاتور، أما «كلابه» فكانت أيضا كناية عن جحافل وجيش عرمرم من شتى أنواع وأصناف المباحث والمخبرين والبلطجية الميرى المسعورين.
بقينا نهتف سنينًا وعقودًا طويلة باسم الكلاب الغلابة وكنا نغنى مع الشيخ إمام كلمات عمنا أحمد فؤاد نجم: «المخبرين خارجين كلاب سعرانة.. بيجمّعوا العشاق فى الزنزانة.. مهما يطول السجن مهما القهر.. مهما يزيد الفُجر بالسجّانة.. مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر؟»، ولم تكن الكلاب الحقيقية حاضرة بالمرة فى المشهد القمعى، لكن سعارها وتوحشها المصنوع عمدًا بالتجويع والتدخل الفظ فى خلقتها الربانية الوادعة، كان هو الذى نراه ظاهرًا مجسدًا فى بشر مساكين لا يقل أغلبهم غلبًا عن الكلاب الأصليين، يكفى أن الحكام المجرمين فككوا إنسانيتهم وأعادوا هندستهم ليصيروا كائنات مشوهة شائهة ومريضة تشبه الكلاب السعرانة.
لكن الثورة قامت والشعب انتفض ونفض تلال الخوف المتراكمة فوق روحه الوثابة، وانفتح باب الأمل والحلم واسعًا أن تشفى الكائنات البشرية التى لطالما لعب فيها المجرمون وخرّبوها وهندسوها على هيئة كلاب متوحشة، فتعود إلى طبيعتها وخلقتها الأصلية وتعيش وإيانا بسلام فى وطن جديد لا يجوع فيه الناس، ولا حتى الكلاب.. وطن يتألق بالحرية ويزهو بالعدالة والكرامة.. كرامة المواطن وكرامة الوطن، بحيث يصير القمع والقهر والنهش فى لحم خلق الله، فضلاً عن التبعية المقيتة لقوى خارجية وتبجيل كلابها، محض ذكريات سوداء من ماضٍ أليم ولَّى وانتهى واندحر.
غير أن ما أتمنى أن يكون مجرد بقايا من زبالات هذا الزمن الغابر الكريه بدت حاضرة ومتجسدة يوم الأحد الماضى فى مشهد شنيع استدعى إلى الذاكرة المثقلة بالبلاوى طعم مرار المهانة الوطنية القديمة.. ففى عصر هذا اليوم الذى شهد زيارة وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى لبلادنا دُعى الصحفيون المصريون لمؤتمر صحفى مشترك جمع الوزير الضيف بوزير خارجيتنا فى أحد فنادق القاهرة (ميريديان المطار)، ورغم أن موعد المؤتمر كان الرابعة والنصف فإن الصحفيين أُبلغوا بأن عليهم الحضور إلى الفندق فى الثانية بعد الظهر، فلما حضروا فى الموعد اكتشفوا أن الفندق المقام على أرض مصرية صار محتلاًّ ومهيمَنًا عليه تمامًا من فرقة أمن أمريكية هائلة العدد والعدة والسلاح عاملت الصحفيين المصريين وكأنهم أسرى فى معتقل جوانتانامو، إذ لم تكتفِ على مدى ساعتين ونصف الساعة، ببهدلتهم وتفتيشهم تفتيشًا ذاتيًّا مهينًا بدل المرة الواحدة ست مرات (!!) وإنما إمعانًا فى الإذلال أطلقت عليهم كلابًا (أمريكية أيضًا) راحت هى الأخرى تفتش وتشمشم وتعبث فى أجساد الزملاء!!!
مضى الوقت ثقيلاً على زملائنا الذين من فرط الوجع واليأس استسلم أغلبهم لشعور كئيب وموجع بأنهم حشروا حشرًا فى سجن أمريكى انتصب فجأة على أرض الوطن.. فهل نحن ما زلنا فى حاجة إلى أن نشق حناجرنا ونهتف من جديد: قولوا للكلب الأمريكانى يلمّ كلابه من بلدنا؟!!
لا حول ولا قوة إلا بالله